تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

غزة.. الإنسان مجرد شىء!

لو أن أحدنا خلا إلى نفسه للحظة صادقة..(إذ ما أندر لحظات الصدق فى حياتنا الآن)، وسألها، ما رأيك يا نفسى فيما يجرى حاليا، من تجويع وتذبيح وتقتيل لأطفال غزة الأبرياء؟.. فبماذا سوف تجيبه النفس؟.. طبعا ستشعر النفس بغُصَّةٍ فى الحلق، وبألم فى البطن، .. وقد ينقبض صدرك.. ثم ماذا بعد؟

 

لا شىء سوى الهمس الحائر: وماذا بيدنا أن نفعل؟ إننا بعد الغصة والألم والانقباض سننهض لنأكل ونشرب ونتوجه إلى العمل.. وكالعادة سيتوالى الليل بعد النهار، وسنمشى الهويْنا.. ألسنا جميعا ذلك الرجل؟

على فكرة، هذا ليس شعور الإنسان المصرى والعربى وحدهما، بل إحساس الناس فى كثير من أصقاع الأرض وبقاعها، نبتئس قليلا، ثم نمضى إلى حال سبيلنا، كأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال فى أعيننا. كيف نَصِفُ هذا الموقف، وما تفسيره، وما هى أسبابه؟

الحقيقة أن هناك أسبابا عديدة، لكن ربما كان أحد الأسباب الرئيسية ما يسمونه فى الفلسفة المعاصرة (تشييىء) الإنسان، أو تسليعه. يعنى إيه؟.. يعنى يا باشا أن إنسان الزمن الراهن لم يعد إنسانا، ولا حتى شِبه إنسان.. بل تحول إلى مجرد شىء، أو سلعة، تُباعُ وتُشترى.

.. طبعا ليس بالمعنى الذى شاع أيام جاهلية البشر الأولى، أيام (نحن غُرابا عك..)، حين كانت ماتزال هناك أسواق النخاسة التى يباع فيها العبيد رجالا ونساءً، وإنما بالمعنى العصرى (الأنيق الشِيك)، الملفوف فى ورق سوليفان. تعالَ أنا وأنت نفكر سويّا فى هذا الأمر، أمر التشييىء، لكن قبل ذلك هناك ملحوظة.

إن مصطلح تشييىء الإنسان هذا ليس جديدا، بل جاء فى أطروحات فلاسفة كبار معاصرين. من هؤلاء عالم الاجتماع المجرى، چورچ لوكاش، المتوفى عام 1971. لقد قَصَدَ لوكاش بالتشييىء تحويل الإنسان إلى شىء، أو مجرد أداة من أدوات الإنتاج فى ماكينة الرأسمالية المتوحشة. هذا التشييىء يؤدى إلى إزالة المكونات والخصائص المعنوية والاجتماعية والأخلاقية فى الكائن البشرى، فتصبح علاقات الناس بالناس علاقات بين أشياء وأشياء، وليس بين بشر، على الرغم من أنهم على شكل وهيئة البشر.

.. وأيضا كان الفضل للفيلسوف الفرنسى الفذ، إيميل دوركاييم، الذى توفى عام 1917، فى استخدام مصطلح، تسليع الإنسان، أى تحويله إلى سلعة. غير أن الحقيقة هى أن خير من عبَّر عن هذا التشييىء، بالصوت والصورة والأداء التمثيلى، كان العبقرى المصرى الكبير الراحل، الأستاذ فؤاد المهندس. لقد وقف المهندس أمام الكاميرا، فى فيلم اعترافات زوج، وراح يعترف: (أنا عصفورة، أنا ريشة، أنا خيشة، لا، لا،.. بل أنا جردل.. أرجوك يا دكتور.. ادلقنى).. ومن يومها والدلق شغال (علاولة)!

بطبيعة الحال كان الأستاذ يحاول إضحاكنا.. فإذا به يبكينا. قُل من فضلك، هل الذين ينظرون فى الشاشات فى كل لحظة، شرقا وغربا، بل وفى إسر ـ ائييييل نفسها، فيرون كلابا تنهش جثثا تحت ركام غزة فتمزقها تمزيقا، هل المستمتعون بهذه المناظر بشر.. أم تراهم قد تحولوا إلى أشياء؟ تريد أمثلة أخرى؟.. إذن ما رأى جنابك فيمن يحمل كاميرا موبايل ويظل يصور بدم بارد قاتلا يقتل قتيلا ولا يتدخل لإنقاذه، بحثا عن تريند منقوع فى الدم؟.. هل هذا بشر أم مجرد شىء على شكل بشر؟

.. وما قولك (متّعك الله بنور البصيرة ورجاحة العقل ويقظة الضمير) فى رجل أخذ يلتقط لزوجته أو ابنته صورا فاضحة لجلب مال قد يأتى أو لا يأتى.. هل هذا رجل؟.. أم مجرد شىء؟.. فليرحم الله تعالى أستاذنا الكبير الراحل، إحسان عبدالقدوس، الذى كان عليه أن يصرخ كاتبا، أو يكتب صارخا: يا عزيزى كلنا أشياء. من المسئول يا ترى عن هذا التشييىء، والتسليع، والتشيؤ؟... إنها حمى الاستهلاك، والإنفاق، والشراء، التى يقوم بها وعليها إعلام عالمى تجارى فاضح، لا يعنيه إلا تركيم المليارات فى خزائن بائعى أى شىء، وكل شىء، حتى الإنسان.. ولِمَ لا وقد بات الإنسان سلعة، أو شيئا، يباع ويُشترى؟.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية