تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > سمير الشحات > جاهين و«اللامنطق» الأخّاذ ..!

جاهين و«اللامنطق» الأخّاذ ..!

يُعرف الشاعر العبقرى الفذ المتفرد من أن يكون شِعره قادرا على تحويل «لامنطقية» المعانى إلى جمال أخّاذ، ووجدان يهز الوجدان، ومنطق جديد مبتَكَر، له المنطق الخاص به هو وحده، وهكذا كان عبقريُنا الراحل الجميل، صلاح جاهين:

 

اللوحة الأولى: يتجه العمدة الساذج، القادم إلى القاهرة للمرة الأولى، ممتطيا حماره الوديع، نحو الأراجوز (لاحظ رمزية الأراجوز !)، فيسأله: منين يروحوا المتولّى؟، فيجيبه الأراجوز: تمشى كِده على طول/ لحد ماتلاقى عمارة/ تِكسر يمين/ تلاقى بتاع فول/ دكانته على ناصية حارة/...وتخُش من مطرح ما طلِعْت/... ولما تلقى مقلة لِب/ تبقى كده تُهت وضِعْت. ثم يفاجئنا جاهين بالعجب العُجاب، وهو إجابة العمدة، الذى يقول بكامل الثقة: (دِى وصفة سهلة) !

تُرى ماذا أراد أبو بهاء، أستاذنا صلاح جاهين، من هذا التيه المُتعمَّد، وتلك الربكة المُربكة؟.. أتراه أراد - كدأبِهِ دائمًا - وضع قاعدة فى منطقية اللامنطق؟ هل يريد مثلا أن يبلغك بأنك فى الحياة، مثلك مثل هذا العمدة، ستحتار وتتوه وكأن الحياة إنْ هى إلّا متاهة معقدة، لو حاولت الوصول فيها إلى معنى أو مغزى، فسوف تحتار حيرة العمدة، ولن تصل (وها تخُش من مطرح ما طلِعت)؟

.. وإذن كيف الخلاص يا أستاذ صلاح؟.. عادى.. خذها ببساطة، وقفّل لى على كل المواضيع، واصرخ فى وجه الحياة: دى وصفة سهلة، وساعتها ستبلغ أنت والعمدة بوابة المتولى.. وحتى إن لم تصل ما المشكلة.. أليس للقاهرة بوابات أخرى عديدة؟..يا سيدى توجه إلى بوابة ثانية!

اللوحة الثانية: انظر إليه كيف يخاطب البنات الحالمات بالزواج، والاستقرار، والعيش فى تبات ونبات: ما تِحسبوش يا بنات/ إن الجواز راحة/ وما تزعلوش يا بنات/ إن قلنا بصراحة/ إن الجواز عُمرُه/ عمره ما كان راحة. ثم انظر إلى العجب العجاب المتمثل فى رد البنات على جاهين. لقد همسن معًا، وفى نَفَسٍ واحد: (عارفين).

.. وكأننا هنا بهذا الفيلسوف المُتخفّى فى رداء (العاميّة) يفاجئنا بقاعدة أخرى من قواعده الكاسرة للمنطق السائد بأن الزواج هو المحطة الأخيرة للراحة والاسترخاء، بينما المنطق (الذى هو لا منطق) هو أنه لا راحة فى الزواج، بل هو رحلة من الكفاح، والصبر، والمشقة.. بحسبان أن تربية العيال (والزوج!) ليست لعبة.

اللوحة الثالثة: إن أردت المزيد من اللامنطق الذى يصنع المنطق فاقرأ رباعيته الشهيرة، التى لا مثيل لها فى شعر العربية المعاصر، والتى تقول: أنا اللى بالأمر المُحال اغتوى/ شُفْت القمر/ نطيت لفوق فى الهوا/ طُلْتُه/ ما طُلتوش/ أنا إيه يهمنى وليه/ مادام بالنشوة قلبى ارتوى.

إن المنطق السليم، المستمد من التفكير الشائع، ومن (الإستيريوتايب)، عوّدنا على أنه: يا عم.. إذا حلُمتَ فاحلم على قدّك، كيف يا أيها (النُصّ لِبَّة) تحلم حلم الامبراطور كاليجولا المجنون الذى ذبحهم لأنهم لم يجلبوا له القمر؟ .. جاهين سيجيب: وفيها إيه؟.. جَرِّب، حاول، نُط، شوف .

اللوحة الرابعة: إن لجاهين أغنية عجيبة، من مقطع واحد قصير، شدا بها محمد منير، تقول: إيديّا فى جيوبى/ وقلبى طِرِب/ سارح فى غربة/ ومِش مِغترب/ وحدى لكن ونسان/ وماشى كِدا/ بابتعد ماعرفش/ أو باقترِب. يا عينى على حلاوة اللامنطق: كيف تكون يا سى منير وحيدا مغتربا، ومع ذلك أنت ونسان وحاسس بالأنس؟.. أليسوا يقولون إن الغربة كرب وكُربة؟..

جاهين ربما أراد أن يقول لنا إن الغربة قد تكون أحيانا أكثر أنسًا وإيناسًا من الأوطان... وهكذا يكون اللامنطق أكثر منطقية من المنطق بشرط أن يقوم بالمهمة ملهمٌ موهوب.. مثل صلاح جاهين.. رحمة الله عليه.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية