تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الشك يُحيى الغرام.. والعقل أيضًا..!
كل عام وأنتم بخير. الدنيا رمضان.
وفى رمضان تزداد الخيرات والخيالات والهواجس، وتتضاعف الهلاوس، وتتكاثر الظنون.
الصيام ليس لعبة. الصيام مشقة. صحيح أن الشياطين تُقيّد فى الشهر الفضيل، لكن شيطانًا واحدًا للأسف يبقى طليقًا. إنه شيطان الظن.
وكما هو معروف، فإن الظن هو ابن عم الشك. ومعروف أيضا أن بعض الظن ليس إثمًا، وكذلك بعض الشك. ما هذه الترهات؟.. أهى تخاريف؟.. نعم هى كذلك، أليس مسموحًا للصائم ببعض التخاريف؟
بماذا نبدأ يا ترى؟..
وهل من بداية أجمل وأمتع من السِّت أم كلثوم؟..
إن كوكب الشرق، وهى تشدو تحفتها الخالدة، الشك يِحيى الغرام، يبدو أنها سقطت منها عبارة من كلمتين، فخرجت أسطوانة الأغنية بدونها. تلك العبارة هى: (... والعقل أيضًا !). لقد كان من المفترض أن تقول أم كلثوم: الشك يحيى الغرام/ ويصحصح العقل/ يا حبيبى.. غير أنها لم تفعل!
.. هل كتب الأستاذ رامى هذه العبارة بالفعل، لكن أم كلثوم لم تستحسنها، فاستبعدتها، أم أن الأستاذ القصبجى استثقل العبارة، ووجد أن مقام اللحن لن يحتملها، فهمس لنفسه: (بلاش دوشة)، ولم يلحنها؟.. الله أعلم.
ما هذا الهرى يا رجل؟.. من أين أتيتَ بهذا العبث؟.. هل هذه معلومة تاريخية موثقة؟..
أبدًا.. إطلاقًا.. إنْ هذا إلا مجرد ظن ابن عم شك.. ألَمْ نتفق على أن للصائم الحق فى (ظناية صغننة)، باعتبار أن بعض الظن ليس إثمًا؟
إن حقيقة الحقائق، هى أن العقل والشك رفيقان متلازمان، لا يحيا أحدهما بدون الآخر، ولا ينبغى له.. ولسنا هنا فى حاجة إلى تكرار ما هو معلوم من الفلسفة بالضرورة من أن الفرنسى الفذ، ديكارت، أقام صرحه الفلسفى على منهج (أنا أشُكُ إذن أنا موجود)، وأن العميد طه حسين اعتمد منهج ديكارت ذاك فى إقامة عمارته الفكرية والأدبية الشامخة. يعنى إيه؟.. يعنى أن بعض الشك (لا هو عيب.. ولا حرام).. فما هو الشك؟
الشك، يا سيد الناس، هو ألا تقبل كل ما يقال لك هكذا بلا تدقيق أو تمحيص أو مراجعة. ألَمْ تسمعهم فى مسلسلات هذه الأيام يرددون: (أنا ما أديش دماغى لأحد)، أو: (أنا بايع مِش شارى)؟.. بمعنى أننى لن أشترى بضاعتك الكلامية تلك دون أن أمررها على عقلى، وأفحصها جيدًا؟..
ستسأل: وهل الكلام بضاعة؟..
يااااااه.. صَدِّق أو لا تُصدق.. إن الكلام هو أخطر بضاعة ستُعرض عليك فى عمرك كله، فخَلِّ بالك..!
طيب.. هل للشك فائدة؟.. يوووووه.. إن له ألف فائدة وفائدة.. سنكتفى منها هنا بثلاث لضيق المساحة.
أولا، إن الشك ينظف العقل، ويجلى الجمجمة، ويُذكّى الدماغ. إنك، وأنت تشك، فإنك ستفكر، ومن ثم سينشط عقلك، وإذا نشط العقل أضاءت البصيرة، وصحا الضمير، فصِرتَ إنسانًا.
وثانيًا، إن الشك (على غير ما يعتقد الكثيرون) يزيد ثقتك فى نفسك، وبالتالى فيمن هم حولك.
لماذا؟..
لأن المرء إذا شك، ففكر، فتدبر، ثم اقتنع، فوثَقَ، فاطمأن، فسوف يتعامل مع الآخرين، ويتعاملون معه، (على نظافة).. فتختفى الأونطة، ويزول اللّوَع، ويبور شغل التلات ورقات، وفين السنيورة، ويموت إدمان الضحك على الأذقان.
.. وأما الفائدة الثالثة، فهى أن الشك هو حاضنة الإبداع، وأُمُّهُ وأبوه، والإبداع يعنى التطور. كيف يعنى؟..
بسيطة خالص: إنك عندما تشك فى فكرة ما، مهما كانت، سيرفضها عقلك، وسيبحث عن فكرة بديلة، ولسوف تتلاقح وتتزاوج الفكرتان، فتنجبان فكرة ثالثة، وهذه بدورها ستلِدُ فكرة رابعة، وخامسة، وسادسة،.. وهكذا. أليس هذا هو التطور والإبداع والإيناع الحضارى؟
حتما سيادتك الآن تلعب فى خيوط شاربك (إن كان لك شارب)، وتوشك على الشك فيما قرأتَ الآن.. وقد تسأل: وهل الشك شىء حلو يعنى؟.. وهل كل الشك خير؟.. طبعًا لأ يا سيدى البيه، إنه يمكن أن يكون خطيرا ومؤذيا وضارّا إن قام فقط على العناد وتنشيف الدماغ دون رغبة فى التعلم وكشف الحقيقة. الشك يجب أن يقوم على نزاهة العقل والحياد والحكمة والتجرد من الهوى والمصلحة، لا لمجرد إثبات الذات بالباطل والسلام.
وبناءً على ما تقدم، فإن أنت استمعت إلى رائعة أم كلثوم ورامى والقصبجى، أغلق عينيك، وردد خلفها: ( الشك يِحيى الغرام/ ويزيد فيه نار ولهيب/ .. والهجر فيه والخصام/ يحلى فى عين الحبيب)... ثم أضِف أنت من عندك: (ويِحيى العقل النائم أيضًا.. !).
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية