تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حكاية مصرية فى عيد الميلاد
«مصر مصرت كل من وفد إليها»، فالثقافات الوافدة لمصرعبر الهجرات والغزاة على مر العصور، انصهرت كلها فى بوتقة ثقافتها الأصيلة المستمدة من حضارتها العريقة منذ فجر التاريخ، ليظل الإيمان بالخالق المبدع، والورع؛ الذى بلغ ذروة التنزيه والتجريد، وتسامى عن أى اختلاف فى التفسيرأو الملة، سرا من أسرار الضمير الجمعى المصري، ونموذجا لحالة توحد وجدانى وفكرى جعلت للرسلات السماوية عموما، وللمسيحية تحديدا مع مصر حكاية ليست كأى من الحكايات؛ فتعاودنا الذكرى مع دقات أجراس عيد الميلاد المجيد...
ولقد بدأ تاريخ المسيحية فى مصر يوم نزحت العائلة المقدسة واستقرت فى مصر ما بين عام وأربعة أعوام، وعندما اعتنق مصريون المسيحية حال ظهور السيد المسيح فى فلسطين، أى قبل التبشير بالمسيحية فى مصرعلى يد مرقس الرسول؛ وكان من هؤلاء «أبلوس» اليهودى السكندرى الذى وصفه الكتاب المقدس بأنه «فَصِيحٌ» و «مُقْتَدِرٌ فِى الْكُتُبِ» و«حَارٌّ بِالرُّوحِ» و«خَبِير فِى طَرِيقِ الرَّبِّ» (أعمال الرسل 18: 24-25).
وفى عام 43 م. أسس مرقس الرسول وأتباعه أول كنيسة بالاسكندرية لتصبح النواة الأولى لأول مدرسة لاهوتية مسيحية بالإسكندرية وأقدم مدرسة للتعليم المسيحى فى العالم. ولقد حمل مؤسسو هذه المدرسة على عاتقهم مسئولية بلورة فقه اللاهوت المسيحى وقواعد الإيمان والعقيدة ووضع الشروح للكتاب المقدس. ولدحض الهرطقة الغنوسية؛ المستمدة من الخلط بين الفكر الإغريقى -الهيلينتسي- والمصرى القديم، والتى هددت الكنيسة ووضعت الله والكتاب المقدس فى موضع تساؤل وشك فى القرون الثلاثة الأولي، عكف الآباء على دراسة الفلسفة والعلوم والرياضيات لمراجعة رؤى ثنائية الروح والمادة وغيرها من الرؤى المستمدة من تراث فلاسفة اليونان كأفلاطون وغيره، لينتهى الأمر بتبنى آباء مدرسة الإسكندرية للكتاب المقدس وإيمانهم بطبيعة واحدة لله، وأن المسيح هو نهاية كل فلسفة ونبوءة وغاية الخلاص والإيمان، وبالتبعية ترسيخ دعائم الأرثوذكسية فى مصر وانتقال تعاليمها للكنائس الشرقية.
وتجدر الإشارة إلى أن مصر تعد الحاضنة الأولى للرهبنة فى العالم، إذ يرجع البعض أصلها وتطبيقاتها لأول مذهب دينى للخلاص عرفه المصريون القدماء باسم «نظام الأسرار». وفى القرن الثالث الميلادى عرفت مصر رهبان البرارى الذين هاموا على وجوههم يبحثون عن «الرب» لـ«خلاص» نفوسهم، وبمرور الزمن وتشييد الأديرة، باتت «الرهبنة المصرية» جزءا لا يتجزأ من شخصية كنيسة الإسكندرية المصرية الارثوذكسية.
وتعد لغة الكنيسة القبطية، التى كُتبت بها الأناجيل والنصوص الدينية والطقسية منذ عرفت مصر الديانة المسيحية فى القرن الأول للميلاد، آخر مراحل تطور اللغة المصرية القديمة المنطوقة. وبذلك حفظت الكنيسة هذه اللغة من الاندثار، لتُبقى تراثا غنيا بالنصوص الأدبية والطبية، ومفاتيح فك الطلاسم الصماء على جدران المعابد والمقابر وحجر رشيد، والتقويم المصرى القديم لشهور السنة؛ الذى لايزال مطبقا فى الزراعة فى مصر حتى اليوم، ويجرى على اللسان بأمثال ك: «بابة ادخل واقفل البوابة»، و«طوبة تخلّى الصبية كركوبة»، و«برمهات روح الغيط وهات»، وغيرها كثير. والجدير بالذكر بعض مفردات اللغة المصرية القديمة واللغة القبطية لاتزال حية حتى اليوم؛ ومنها «كانى وماني» بمعنى لبن وعسل و«فشخرة» بمعنى التباهي، و«ورور» بمعنى الطازج أو صغير السن، و«بَح» بمعنى انتهي، و«هجّاس» بمعنى الكذوب، و«محلسة» بمعنى التودّد الزائد، و«لبشة» بمعنى حزمة، و«أوطة» بمعنى طماطم، و«باش» وتعنى ابتل، إلخ. كذلك مازالت أسماء قرى ومحافظات مصرية تحتفظ بأسمائها القبطية مثل: «أسوان» وأصلها سوان أى السوق و«قنا» وأصلها قينى بمعنى يحتضن، وغيرها مما تضيق المساحة عن ذكره. وتجسد الأغانى الشعبية فى مصر حالة التوحد الوجدانى والفكرى فى الضمير المصرى الذى تجاوز مناطق الاختلاف العقائدي، عبر مساحات مشتركة أبعد ما تكون عن التطرف، فامتزاج الفلكلورالشعبى بموتيفات دينية فى المناسبات كاستقبال الحجاج والعديد- «يا مريم خبّرينى مين قتل يسوع/ قتلوه اليهود فوق الصليب مرفوع»، التى يقابلها «يا بهية وخبّرينى مين قتل ياسين»،- والتماس البركة لدى الأولياء والقديسين لتصبح المناسبات الدينية أيا كانت الملة احتفالية؛ تبوح فى كل مرة بسر من أسرار الضمير والوعى الجمعى المصرى ..وكل عام وكل أهالى المحروسة بخير..
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية