تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
مصير الكتب فى عالمنا العربىّ
عندما دخلت قوّات الحلفاء مدينة برلين المُدمَّرة سنة 1945 صادر الجيش السوفيتى قسماً كبيراً من مكتبة أدولف هتلر، ونقلها إلى موسكو. وأخذ جنود أمريكيّون ما وجدوه من كتب فى مكاتبه الخاصّة فى ميونخ وغيرها من المدن الألمانيّة، وهى معروضة اليوم فى مكتبة الكونجرس، وعددها ثلاثة آلاف، إضافة إلى ثمانين كتاباً أُودِعت فى مكتبة جامعة براون. وقد قُدّرت مكتبة هتلر الأصليّة بثمانية عشر ألف كتاب، أُحرِق بعضها فى أثناء قصف برلين. وقبل سنوات، قرّر المُؤرّخ الأمريكيّ تيموثيرايباك البحث فيما تبقّى منها، وألّف كتاباً مرجعيّاً بعنوان «مكتبة هتلر الخاصّة».
التاريخ لم يرحم هتلر، ولعلّه من أكثر الشخصيّات كرهاً فى الذاكرة الجمعيّة الغربيّة، ولكنّ هذا الكتاب يرسم صورة مختلفة عن الرجل، ويظهره قارئاً نهماً محبّاً للأدب بأنواعه المختلفة. يحاول الكاتب رايباك معرفة المزيد عن حياة الفوهرر الخاصّة عن طريق الكتب التى كان يقرؤها، ومن الملاحظات الخطّيّة التى كان يدوّنها فى هوامشها. تآكل الكتب وكثرة الملاحظات عليها يكشف لنا الكتب التى قرأها هتلر أكثر من مرّة، والكتب التى لم يفتحها ولم يسجّل فيها أى ملاحظة، لماذا لم تثر اهتمامه وهو الذى كان يقرأ يوميّاً قبل النوم؟ ما الكتب التى كانت فى متناول يده لكى يعود لها بشكل يومىّ؟ وما الكتب التى كانت فى غرفة نومه إلى جانب سريره؟ كلّ هذه التفاصيل المضنية فى كتاب تيموثيرايباك تأخذنا إلى حجرة هتلر الخاصّة، وتعطينا صورة واضحة عن اهتماماته، ومن أثّر فيه من كتّاب وشعراء عالميّين. معظم كتبه كانت طبعة أولى مهداة من كتّابها، جُلّدت تجليداً فاخراً، وحملت على طرفها الأحرف الأولى من اسمه مع شعار مُذهَّب للرايخ الثالث. نعرف منها مثلاً أنّه كان مغرقاً فى القراءات الدينيّة، ومولعاً بتاريخ الحروب، وأنّه كان يحبّ وليام شكسبير كثيراً، والأهمّ أنّه لم يقرأ شيئاً صادراً عن وطننا العربيّ، باستثناء نسخة مترجمة من القرآن الكريم. وهذا يؤكّد أنّ العرب القلائل المحيطين به والمقيمين فى برلين، مثل مفتى القدس الحاج أمين الحسينيّ، لم يقدّموا له كتاباً فى زمن الحرب العالميّة الأولي.
حسدت المؤرّخ الأمريكيّ على بحثه، وكم تمنّيت القيام ببحث مشابه عن مكتبات الشخصيّات العربيّة المعاصرة. سألت الملك فؤاد الثانى ذات يوم عن مكتبة أبيه ــ الملك فاروق الأوّل ــ الذى كان يهوى جمع الكتب النفيسة والنادرة، وكان جوابه: «كتب إيه أفندم؟, وسمعت أنّ مكتبة الرئيس محمّد نجيب بيعت منذ سنوات طويلة، وتبعثرت عند بائعى الكتب القديمة فى شوارع القاهرة. ولكنّى اطّلعت شخصيّاً على مكتبة الرئيس الراحل شكرى القوّتلى، الموجودة اليوم فى بيروت، وهى كاملة ومحفوظة بشكل ممتاز، فيها الكثير من كتب التاريخ الإسلاميّ القديم، وكلّ ما نشر فى عهده، وقُدّم له كطبعة أولى مع إهداء خطّيّ من مؤلّفين سوريّين وعرب فى أربعينيّات القرن العشرين وخمسينيّاته. فيها الكثير عن تاريخ العرب، والكثير الكثير عن مدينة دمشق.
معظم المكتبات السوريّة القديمة التى عاينتها تظهر أمراً لافتا عن حركة النشر فى النصف الأوّل من القرن العشرين. الناشرون والكتّاب السوريّون والعرب كانوا فى بداية تعرّفهم على الغرب، وقد بذلوا جهداً كبيراً فى ترجمة كتبه الأدبيّة الغربيّة ووضعوا مؤلّفات عدّة عن الشخصيّات المؤثّرة فى المجتمعات الغربيّة. لم يجدوا دافعاً حقيقيّاً للكتابة عن مدنهم؛ لأنّهم لم يشعروا بأنّها مهدَّدة آنذاك. طفرة الأبحاث عن دمشق والقاهرة وبغداد وبيروت لم تأت إلّا فى سنوات لاحقة من القرن العشرين، يوم شعر الكتّاب العرب أنّ هذه المدن فى خطر، وأنّه لابدّ من الكتابة عنها بإسهاب، وتأريخ ماضيها القريب والبعيد. وهذا ما يفسّر كثرة الكتب فى مكتبات الشخصيّات العربيّة عن روسو وفولتير، وقلّتها عن أحمد شوقى، وكثرة المؤلّفات عن تشرشل وديجول، وقلّتها عن الملك فؤاد أو غيره من الحكّام العرب فى النصف الأوّل من القرن الماضي. هل يمكن إنجاز بحث متكامل عن مكتبة أى شخصيّة تاريخيّة عربيّة كما فعل تيموثيرايباك مع أدولف هتلر؟ أعتقد أنّ الأمر محال لأنّ معظم كتب هؤلاء ضاعت فى عتمة الحروب والمنافي، ناهيك عن غياب ثقافة حفظ المكتبات فى بلادنا ــ إلّا فيما ندر ــ والتفريط بها عادة من قبل الأولاد والأحفاد بعد رحيل أصحابها. وهنا أذكر حادثة جرت معى منذ مدّة فى دمشق، عندما جاءنى اتّصال بأنّ منزل أحد أعيان سوريا وسياسيّيها القدامى قد بيع، وأنّ فيه مكتبة نفيسة يودّ صاحب الدار الجديد بيعها.
سعدت بالاتّصال، وزرته فوراً لمعاينتها. يا سيّد: سيصعب عليّ معاينة المكتبة فى جلسة واحد، فهى ضخمة جدّاً، أرجوك أن تمهلنى قليلاً من الوقت. فرد: إن لم تفعل الآن، سأضطرّ إلى التصرّف بها لأنّ ورشات الدهان ستدخل اليوم، وستكون عائقاً أمام عملها. فقلت: ماذا ستفعل بها إن لم آخذها؟ قال: سأحرقها... فقلت: كم تريد ثمنها؟, فقال: لا أريد منك أيّ مال، خذها من وجهى وأرحنى منها أرجوك.
أخذت المكتبة كلّها، ولم أستثنِ منها قصاصة ورق واحدة. نُقِلت بسيّارات كبيرة إلى مكتبى، وبلغ عددها عشرة آلاف كتاب، معظمها من النوادر. وجدت فيها إصدارات أوّليّة مع إهداء من الدكتور طه حسين، ونسخاً نادرة من دواوين الشاعر الكبير نزار قبّانيّ، كلّها مع إهداء خطّيّ بقلمه. هذا مصير الكتب فى عالمنا العربيّ للأسف.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية