تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. ياسر طنطاوى > الثقافة الدينية وبناء المجتمع

الثقافة الدينية وبناء المجتمع

الثقافة هى مجموعة المعارف المكتسبة بمرور الوقت ، وتتنوع اشكال الثقافات بما  تكتسبه من معارف ، واهم اشكال هذه الثقافات هى الثقافة الدينية التى يسعى الفرد العادى لإستيعابها، فهى لها تأثير كبير على المجتمع لإرتباطها بالإيمان والعقيدة وبما وقر فى قلب الانسان بعكس الثقافات الاخرى

، وتتنوع الثقافة الدينية فقد تكون صحيحة وايجابية وعلى علم ودراية وفهم بصحيح الدين ، واما ان تكون ثقافة دينية سلبية وخطيرة ومدمرة للانسان والمجتمع نتيجة الفهم الخاطىء للدين والجهل بأحكامه ، التى يتعمد البعض اشعالها لاهداف محددة ومنها غسيل مخ الشباب لكى لا يتمكنوا من التمييز بين الاسلام الحق وما بين التطرف الفكرى والارهاب ،

وفى هذا الاطار يقول الدكتور مصطفى محمود " فى اطار سعيه لنشر الثقافة الدينية " ليس مطلوب ان يكون فى جيبك مصحف ، ولكن المطلوب ان تكون فى اخلاقك اية " ، فهو أراد ان يؤكد بأن الهدف الحقيقى يكمن فى التمسك بصحيح الدين وتنفيذ أوامره وتدبر آياته وتجنب نواهيه والتركيز على المضمون وليس الشكل ، وان تكون القواعد والاحكام الدينية هى اساس المعاملات بين الناس بعضها البعض ،

فالقرآن الكريم لم يكتب لتزيين المنازل والسيارات به ، وانما كتب لتدبر اياته والعمل بما فيها ، ونفس الامر فى العبادات الشعائرية فهى لا تصح ولا تقبل إلا إذا صحت العبادة التعاملية ، حيث يكرر دائما علماء الدين مقولة " الدين المعاملة "، هذه المقولة التى تبرز أهمية التعامل بين الناس بعضهم البعض وان هذا التعامل هو اساس الدين الحق واساس الانسانية ، "فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .

ويظل الانسان هو بنيان الله وارقى المخلوقات ، نفخ الله فيه من روحه واسجد له الملائكة ومنحه حرية الاختيار وجعل من أحيا هذه النفس فكأنما أحيا الناس جميعا ومن اماتها فكأنما امات الناس جميعاً ، فالانسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيان الله 

 لذلك جاءت أقصر خطبة في التاريخ منذ ألف عام تقريبا لتوضح هذا الامر وتؤكد على اهمية الانسان حيث اعتلى الشيخ عبد القادر الجيلاني المنبر قائلاً : لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع، وخير ممن قام لله راكع وخير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع، وخير ممن صام الدهر والحر واقع، وإذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع فيا بشرى لمن أطعم جائع!

 خطبة صغيرة.. ولكن معانيها عميقة ، فاطعام الطعام هو اولى المعاملات والعبادات وافضلها ، وقد يفضلها البعض على حج النافلة فى حالة إنقاذ المرضى، وإطعام الجوعى في زمان الوباء ومن باب اولى فى حالة احتياج المجتمع للمساعدة نتيجة الظروف الاقتصادية التى يمر بها ، فعبد الله بن المبارك رحمه الله، تقول له فتاة وقد خرج للحجِّ سنة: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلَّا هذا الإزار، وليس لنا قُوت إلا ما يُلقَي على هذه المزبلة، وقد حلَّت لنا الميتة منذ أيام؛ فدفع إليها نفقة الحجِّ، وقال: «هذا أفضل مِن حجِّنا في هذا العام»، ثم رجع ، فالثقافة الدينية الايجابية تركز على المضمون فى الحج والعمرة ، فلابد ان تكون الاموال التى سافر بها الشخص للحج أو العمرة حلال لا تشوبها أى اموال حرام ، ويجب إعداد نفقة الحج من أطيب كسب الإنسان وحلاله، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، لانها لو كانت حرام وقال لبيك اللهم لبيك قال الله تعالى "لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك وفي رواية " لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام وراحلتك حرام وثيابك حرام وزادك حرام ، ارجع مأجور، وأبشر بما يسؤوك، وإذا خرج الرجل حاجا بمال حلال، وبعث راحلته، قال لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك أجبت بما تحب راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك حلال ارجع مأزور واستأنف العمل" ، كما ان المال الحرام لا ينفع صاحبه التصدق به، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد جاء في الحديث: من جمع مالًا حرامًا ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه ، ولذلك فإن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
فالثقافة الدينية الايجابية لابد ان توضح هذه المسائل وهذه الفتاوى للمجتمع لتصحيح الصورة ، ومواجهة الفساد الناتج عن الثقافة الدينية السلبية ، فالله يهتم بالمضمون وليس بالشكل ، فلا يمكن لموظف يصلى ويرتكب الفساد ان يكون قلبه سليم ، لأن المفترض ان تمنعه صلاته عن ارتكاب المعصية ، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من لن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له " ، كما لا يجوز لصائم ارتكاب المعاصى أو ذكر الاخرين بالغيبة والنميمة ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) ، كما يقول الله عز وجل "  يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم "

معنى ذلك ان الثقافة الدينية تؤكد بأن العبادات جميعها مرتبطة ببعضه البعض ومرتبطة بشكل اساسى بالمعاملات ، وهذا يفسر سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لاصحابه عندما قال لهم " أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ" فقد يكون هناك رجال عظماء فى اعين الناس ولكنهم بخلاف ذلك فى تعاملاتهم الشخصية ، فقد مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟))، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا واللهِ حَرِيٌّ إنْ خطَبَ أن يُنكَحَ، وإن شفَعَ أن يُشفَّع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيك في هذا؟))، فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إنْ خطَب ألا يُنكَح، وإن شفَع ألا يُشفَّع، وإن قال ألا يُسمَعَ لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خيرٌ من ملءِ الأرض مِثلَ هذا " ، والاكثر تأثيراً واشد بلاءً من يطوعون الدين لمصالحهم او يغلفون كل باطل بغلاف دينى بما يتناسب معهم لتدمير المجتمع ونشر التطرف الفكرى والارهاب ، لذلك قال الفيلسوف الاسلامى بن رشد إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني ، لكن الملاحظ ان بعض رجال الدين يلعبون دوراً سلبياً فى المجتمع بشكل غير مباشر على الرغم من اهمية دورهم لكون الشعب المصرى شعب متدين بفطرته ، لذلك لابد من التركيز على نشر الثقافة الدينية الصحيحة وسط المجتمع ، ولابد لرجال الدين التركيز على المعاملات والاخلاقيات والبعد عن القضايا المثيرة للجدل لمساعدة المجتمع على تجاوز هذه المرحلة الهامة من تاريخه نتيجة التطرف الفكرى الدينى من جهة ، وافتقاد عدد كبير من الشباب للمبادىء والاخلاق والقيم الدينية من جهة اخرى، نتيجة ما نعيشة من سفسطائية دينية وتناحر بين رجال الدين فى قضايا فرعية أوغيبية وترك اساس الدين وهو المعاملة ،

فالمجتمع الياباني مثلاً يمتاز بصفات منها الصدق، الأمانة، والدقة في العمل ، واحترام السلوكيات والعادات الاجتماعية ، وهذا الامر لم يكن وليد اللحظة ولكنه احتاج لسنوات طويلة من العمل ليصل الى هذا الشكل والمضمون ، فى حين يتقمص الشباب المصرى صفات الشخصيات المبتذلة للافلام منذ الليلة الأولى لعرضها لتكون جزء اساسى من شخصيتهم ، ولذلك فإننا فى حاجة ملحة الى شخصيات دينية مقبولة اجتماعياً وذات ثقافة مستنيرة ووسطية بحيث تكون لديها القادرة على اداء دورها فى إعادة تشكيل الثقافة الايجابية لتعميق مضمون المجتمع المصرى ولمواجهة كافة اشكال التحديات الداخلية والخارجية ،
حفظ الله مصر .

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية