تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

فجأة أصبحت الصين محور معظم التحركات السياسية والدبلوماسية دوليا وإقليميا، ومثار اهتمام الدوائر البحثية ووسائل الاعلام، والتى اعتبرتها التنين القادم الذى سيعيد تشكيل النظام العالمى ويتحدى الهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية التى ترسخت منذ انتهاء زمن الحرب الباردة، للدرجة التى فاقت فى أهميتها دور روسيا نفسه رغم ما أعلنه رئيسها مرارا وتكرارا عن سعى بلاده الحثيث للقيام بهذه المهمة، وقيادة باقى الدول نحو هذا التغيير، فإذا ببكين هى التى تتصدر المشهد حتى دون الحاجة للحديث صراحة عن نيتها وأهدافها بعيدة المدى والتى تتفق فيها مع زعيم الكرملين، والواقع أن عنصر المفاجأة هنا لا يتعلق برغبتها فى الدفع نحو التعددية القطبية، فهذا أمر مفروغ منه، وإنما فى تخليها عن سياسة الكمون والانغلاق على الذات واتباعها لعقود طويلة سياسة خارجية شديدة الحذر والغموض أحيانا، كى تبدو محايدة أو عازفة عن التدخلات السياسية خارج حدودها، مكتفية بقوتها التجارية والاقتصادية على مستوى العالم، ولكنها الآن، بدأت تُترجم هذه القوة على الصعيد السياسى، لتنتقل من حالة الانزواء إلى النشاط غير مسبوق.

 

ففى الأسبوع الماضى قام الرئيس الصينى شى جين بينج بزيارة لموسكو، فى أول زيارة يقوم بها بعد انتخابه للرئاسة لفترة ثالثة، وربما نظر إليها البعض على أنها مجرد زيارة رمزية لتعزيز العلاقات الثنائية بين الجانبين، وهى وثيقة أصلا، ولكن ذلك لم يتوافق بالطبع مع نظرة الولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية لها، واعتبرتها دعما صريحا للرئيس الروسى فلاديمير بوتين الذى صدرت ضده مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بناء على الاتهامات الغربية له بارتكاب جرائم حرب فى أوكرانيا، ولكون الزيارة جاءت مباشرة بعد هذا الحدث فعدها الجانبان الأمريكى والأوروبى، تحديا صريحا لقرار المحكمة، يكشف «زيف» الحياد المفترض الذى ادعته بكين حيال الحرب الأوكرانية، وانحيازا لا لبس فيه للطرف الروسى الذى يواجة عزلة دولية بحكم العقوبات المفروضة عليه.

وقبل ذلك، قدمت القيادة الصينية مبادرة فى 24 فبراير الماضى، للتسوية السياسية للأزمة الأوكرانية وإنهاء النزاع الدائر حاليا، وجاءت تزامنا مع الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية، وهى مؤلفة من 12 بندا، أهمها مانصت عليه من ضرورة احترام سيادة الدول كافة وأن الدول جميعا متساوية وفق القانون الدولى، وهى صيغة تهدف بها استمالة الطرف الأوكرانى، وكذلك عدم جواز استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها وهو بند قُصد به تهدئة المخاوف الغربية من احتمال لجوء روسيا إليه، ولكن هناك بنودا تتعلق بالسلوك الغربى وجهت له جملة من الانتقادات، منها أنه لا يمكن ضمان أمن دولة ما على حساب أمن الدول الأخرى، ولا يمكن ضمان الأمن الإقليمى من خلال تعزيز الأحلاف العسكرية وتوسيع مجال انتشار قواتها وتمددها، وأنه من الضرورى احترام المصالح المشروعة والهواجس الأمنية للبلدان جميعا والواضح أن هذا النص موجه لحلف الناتو، وهى الأسباب ذاتها التى ساقتها موسكو لتبرير اجتياحها لأوكرانيا بذريعة أن الحلف يسعى لتطويقها عسكريا، كما نصت على ضرورة التخلى عن فرض العقوبات أحادية الجانب فى إشارة إلى سياسة واشنطن بهذا الصدد.

ورغم أن تلك المبادرة حاولت أن تقدم مقترحات متوازنة تلبى مطالب كل من الطرفين المتحاربين، فإنه ليس من المؤكد أن يقبلها الغرب، خاصة إذا كانت مشروطة بالموافقة الكلية على جميع بنودها وليس انتقاء بعضها دون البعض الآخر، لكن المهم أن أوروبا لم ترفضها بالكامل، وأعلن الرئيس الفرنسى ماكرون أنه سيقوم بزيارة للصين بمرافقة رئيسة المفوضية الأوروبية، ستركز على سبل تحقيق السلام فى أوكرانيا.

وبغص النظر عما ستئول إليه المبادرة، فإن المعنى المستخلص هو دلالتها على الحضور السياسى اللافت للصين فى الآونة الأخيرة وأنه آخذ فى التزايد، والشىء نفسه ينطبق على رعايتها للمصالحة التى تمت بين الرياض وطهران بعد طول نزاع فى منطقة الخليج، وهى خطوة سترسخ ولا شك نفوذها فى الشرق الأوسط.

لذلك لم تكن مصادفة أن تركز وثيقة الأمن القومى الأمريكى على الدور التنافسى للصين، وتعتبرها التحدى الرئيسى للنظام الدولى الذى أرست دعائمه على أساس انفرادها بقيادة العالم، لأنها من وجهة النظر هذه، تمتلك مقومات هذا الدور من الناحية الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية ووفرة الموارد التى تؤهلها لفرض نفسها على الساحة الدولية، وليس فقط فى محيطها ومنطقتى المحيط الهادئ والهندى، كما كان الحال فى الماضى، بخلاف روسيا التى لم تضعها فى ذات المصاف بسبب أزماتها الاقتصادية الداخلية قياسا ببكين، ما يحد من قدرتها على الانتشار بنفس الدرجة، لذا اكتفت معها باتباع سياسة الردع والعمل على إفشالها فى أوكرانيا وعزلها دوليا من خلال تشديد العقوبات عليها.

من هنا أقرت الوثيقة طرق وأجراءات الحد من القوة المتنامية للصين على الأصعدة كافة، استنادا إلى رؤيتها فى أن السنوات العشر المقبلة ستكون هى العقد الحاسم فى المواجهة معها، وفى مقدمتها، الحفاظ على التفوق العسكرى لأمريكا بمسافة كبيرة تفصلها عنها، إلى جانب التضييق عليها فى مسألة تايوان ومنع ضمها إليها تحت شعار «الصين الموحدة»، وكذلك من الناحية التكنولوجية، بفرض قيود على توريد أنظمة التقنية العالية من قبل الشركات الأمريكية والأوروبية إليها، ولعل التنافس على احتكار وسائل التواصل الاجتماعى المشتعلة الآن والتى تقودها واشنطن، هى إحدى صور هذا النمط من الصراعات الحديثة، وأبرز مثال هو ما يدور حول تطبيق نظام «التيك توك» الصينى،إذ تسعى رغم شعبيته وانتشاره الواسع بين الأجيال الجديدة، ومعها الكثير من الحكومات الغربية، بحظر استخدامه، بحجة أنه أداة للتجسس واختراق المؤسسات الأمريكية، وتوظفه بكين لنشر أخبار زائفة، وأنه وسيلة لجمع المعلومات، رغم أن هذا قد يسرى على جميع المنصات مثل فيسبوك وتويتر وإنستجرام.

باختصار، هذا جزء من صراع محموم بين أمريكا والغرب والصين على النظام الدولى، وأن الأخيرة وصلت فيه إلى مرحلة متقدمة، ولكن ليس إلى مرحلة النصر الحاسم بعد.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية