تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. هالة أحمد زكي > «الأهرام» كشاف كنوز المحروسة

«الأهرام» كشاف كنوز المحروسة

كان يوما فارقا فى تاريخ المحروسة.. الخامس عشر من أغسطس عام 1835 حين أصدر محمد على باشا والى مصر أول قانون يحمى آثار المحروسة مصر كمرسوم يهم أهل البلاد والعباد.

الباشا يعترف بأن الوقت قد حان للحماية من هؤلاء الأجانب الذين بلغ بهم الهوس مدى لم يكن متصورا بحثا عن المومياوات والمساخيط والتماثيل المختبئة وسط المعابد والرمال والبيوت المهجورة.

صحيح أنه هوس وجنون، لكنه لم يعد يخص اللصوص وشذاذ الآفاق الذين يجوبون البلاد بحثا عن فرصة، فهناك شهود على اقتتال بين كبار الأجانب من أجل التنقيب والاستحواذ على ما لا يملكون.

حل جيد وليس بعيدا عن الشيخ والأفندى، نقصد الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى، صاحب أكبر مشروع للتحضر والتعليم منذ عودته من باريس، ويوسف أفندى، الخبير بآثار مصر الوسطى فهما مفتاح السر وراء صدور هذا القانون بل إنشاء مصلحة الآثار المصرية.

وقتها لم نكن حاضرين لنسجل بالقلم والصورة كل ما يجرى، حيث يخبرنا التاريخ بأن سنوات أربعين تفصل بين تأسيس الأهرام فى الإسكندرية عام 1875 وبين هذا القانون، عوضها الأهرام فى تمكن واتقان بملاحقة كل ما يمس آثار مصر، وكأنه يعتذر عن السنوات التى سبقت مولده لتتجمع لدينا حكايات لا تنتهى.

ولنتساءل: ماذا حدث؟.. دعونا نذهب ونر.

هذا هنرى صولت البريطانى الذى لم يهمل طرق أى باب ولم يترك أى فرصة للحصول على الآثار المصرية، بل يصل به هذا الشغف أن يكلف بلزونى المستكشف والمغامر باقتلاع مسلة من جزيرة فيلة فى جنوب نيل أسون ليحضرها إلى الإسكندرية.

وهذا عامل صعيدى يكتشف تمثال نفرتيتى فى تل العمارنة، فيصيح باندهاش وفرح.. تمثال حلو جوى يا أولاد، ليغيب عن كتب التاريخ وتحسب لغيره.

وهذه قصة غرق التابوت البازلتى الأسمر النادر عند شواطئ إسبانيا قبل أن يصل إلى بريطانيا.

وحين يشرق زمن الاكتشافات المصرية، يتضح جهد العالم الكبير سليم حسن فى سقارة، ويحاوره الأهرام، وينقل محاضراته بالجمعية الجغرافية.

وفى زمن لاحق، نجد نعمات أحمد فؤاد تشعل قضية هضبة الهرم والحفاظ على قبة مسجد الحسين، رضى الله عنه. ونقرأ بحب للعالمة الجليلة سعاد ماهر وهى تؤكد صحة وجود سيف منسوب للرسول، صلى الله عليه وسلم، بمسجد الحسين وتؤرخ مع العالم الأثرى حسن عبدالوهاب للموائد الرمضانية.. ولتبدأ الحكايات.

 

الحكاية الأولى

فى حب مصر القديمة

كل شيء هادئ فى الصعيد، تحديدا فى تل العمارنة، ما بين ملوى وأسيوط، حيث تعمل البعثة الألمانية للتنقيب فى بدايات القرن العشرين وتحديدا عام 1912 حيث سمع صياح عال وضحكات لأحد العمال وهو يجرى فى اتجاه هيرمان رانكه أحد مساعدى لودفيج بورخاردت.

صوته ولهجته الصعيدية الصميمة تشق طريقها إلى أسماع كل من بالموقع ليستفيقوا على ظهور تمثال نفرتيتى بكل تفاصيل فن مبهر دقيق.

كان تحفة وهو المكتشف الحقيقى، ولولا الأهرام لما عرفه أحد، ولنسى الناس حقيقة الرجل الذى كان وراء هذا الاكتشاف المذهل الذى ظل سيمفونية جمال تفرض نفسها وتوثيق للحظة رقى ودلال إبداعى لم يعرفه العالم من قبل.

صحيح أن بورخاردت حقق نصرا استكشافيا، وأن رانكة قد أصبح من أهم علماء المصريات، ولكن المكتشف الحقيقى المصرى لم ولن تختفى قصته.

ليست هذه هى القصة الوحيدة، فمنذ ما يقارب 188 عاما غرق التابوت البازلتى النادر الخاص بمنكاورع عندما قدم إلى بر مصر مهندسان أجنبيان ليعاونا أحد كبار الموظفين فى زمن محمد على باشا، وهذان أعجبا بتابوت داخل الهرم وكان الحلم هو نقله إلى لندن.

كاد الحلم يتحقق بعد أن نجحوا فى الخروج به وشحنه فى السفينة بياتريس، لكن عاصفة هوجاء حولت البحر إلى ظلام وخوف وسط أمواج عالية لم ترحم السفينة وأغرقتها قبالة الشاطئ الإسبانى، قبل أن تصل إلى بريطانيا المحطة الأخيرة التى كانت تنتظر.

أما هنرى صولت البريطانى المهتم بالمصريات، فيكلف بيلزونى أكبر مغامر فى تاريخ الآثار المصرية بأن يقتلع مسلة من جزيرة فيلة فى جنوب نيل أسوان لينقلها إلى لندن لإعادة أقامتها فى حديقة قصر كينجستون لاسى بالقرب من مدينة دورست التى تبعد ساعتين عن لندن.

كان حلما لا يمكن تحقيقه إلا بمساعدة بلزونـى الذى عاش فى مصر بعيدا عن أصوله الأوروبية يغطى رأسه بالعمامة العثمانية ويطلق لحيته، ومع هذا فبلزونى الذى دخل التاريخ بأفعاله، يقرر أن يترك مصر إلى تيمبوكتو، حيث تنتهى رحلة حياته الصاخبة أثر مرض حاد بالدوسنتاريا فى إفريقيا.

لا تتعجبوا حين تقرءون هذه الحكايات التى رواها باقتدار وجاذبية الصحفى والأثرى كمال الملاخ الذى تحدثت الصحافة عن اكتشافه لمراكب الشمس، وما كان من تفرغه للعمل فى الأهرام منذ عام 1957، وكتاباته التى شغفت بالمصريات ومزج الفن بالآثار بالحياة.

ربما حقق كمال الملاخ شهرة عالية، لم يدركها المحرر الأهرامى المتفانى الذى لاحق اكتشافات ومحاضرات العالم الكبير سليم حسن، وأدى مهمته على خير وجه فى زمن كانت القاهرة تفرق فيه بين العامة والأفنديات وأصحاب المشروعات الثقافية، وكان سليم حسن ضمن هؤلاء الذين يحملون العلم ويسعون إليه.

لم تكن هناك مبالغة وتحيز فى تعقب هذا العالم المخلص الذى لا يكف عن البحث و الجدل ويكفى اكتشافاته مع العالم النمساوى يونكر فى أعمال الحفر والتنقيب بمنطقة الأهرامات، وعمله بعدها بعام فى التنقيب لمصلحة جامعة القاهرة، حيث اكتشف 200 مقبرة، و ما كان من تعيينه وكيلا عاما لمصلحة الآثار المصرية 1936 كأول مصرى فى هذا المنصب.

الأهرام كشاف مواهب، وهذا الرجل محط الأضواء، حيث نشر عن اكتشافات سقارة عام 1931، مشيرا إلى اطلاع إسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء والملك فؤاد على هذه الاكتشافات. ولهذا فمن المنطقى أن نرى خبرا بالأهرام فى الصفحة الأولى يعلن محاضرة مخصصة للسيدات عن حفائر الجامعة فى الثامنة مساء الجمعة 30 يناير عام 1931 بالجمعية الجغرافية، ليعرض كل ما عثر عليه بالفانوس السحرى.

هكذا يظل سليم حسن حالة خاصة حتى إذا أصبح الطريق أمامه مفتوحا لتولى منصب مدير الآثار، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب منافسة بينه وبين المدير الفرنسى، انتهت بالتحقيق معه وإحالته للمعاش، وإصدار الحكومة فيما بعد قرارا بإنهاء عمل المدير الفرنسى.

صدمة زلزلت كيانه، إلا أنه عاد وأمسك بالقلم، واعتبر كتابة تاريخ مصر القديمة مهمة موكولة له وحده كتلميذ أقرب للأثرى الكبير أحمد باشا كمال.

كل هذا والأهرام يتابعه فى موسوعته وترجمته لكتاب «فجر الضمير» لجيمس هنرى بريستيد وإصداره كتاب «أبو الهول» وحين يعين رئيسا للبعثة المكلفة بتحديد تأثير مشروع السد العالى على آثار النوبة، بل يتابع معاركه فى المتحف المصرى، حين يكلف من الوزير ثروت عكاشة بجرد المتحف.

معارك كثيرة والقلم مازال فى يد سليم حسن الذى يكتب عن جغرافيا مصر القديمة ويجتهد فى الدخول إلى العصر البطلمى، ليصحح الصورة النمطية لكليوباترا كملكة تمتلك من الوطنية ما لا يملكه غيرها، بل يرى فى النيل مبحثا جديدا للحياة فى بر مصر يستحق موسوعة كاملة عن مدنياته ومعتقداته ولغاته.

وأما عن الخبر الأخير الذى أفردت له الأهرام مساحة مميزة أقرب إلى القلب فكانت نعيا لرحيله فى 30 سبتمبر عام 1961 وكأنه شرح لواقع وحقيقة الحياة. الإنسان يرحل، ومازال فى القلب رجاء، وفى العقل اجتهاد حتى اللحظات الأخيرة وإلا لما اعتبر إنسانا.

ولا تنتهى الحكايات، فلدينا ما حفظه الأهرام لأحمد فخرى وعبدالمنعم أبو بكر وسامى جبرة وعبدالحليم نور الدين وعبدالمحسن بكير ومصطفى عامر وعبدالعزيز صالح ومحمود حمزة وغيرهم.

 

الحكاية الثانية

القاهرة فى 1000 عام

كثير من التكهنات تدور فى صالة التحرير داخل جريدة الأهرام حتى إنها قد بلغت مكتب رئيس التحرير، الجميع يتساءلون: كيف سنحتفل بهذه المناسبة المهمة القاهرة ستتم عامها الألف عام 1969، ولن يكون هناك احتفاء دون الكشف عن حضارة وثقافة القاهرة الساحرة الرائعة؟!.

نريد أن يأتى الاحتفال فى حجم القاهرة والأهرام، ولنبحث مع كريسويل عالم الآثار الإسلامية ليسهم معنا بأبحاثه القيمة.

لن يكون وحده، سندعو د. حسن الباشا للقيام ـ كما جاء فى مقدمة «القاهرة..تاريخها ..فنونها..وآثارها» ـ بمشروع احتفالية مع نخبة من المتخصصين فى الآثار والفنون الإسلامية هم عبدالرحمن فهمى وعبدالرءوف على يوسف وحسين عبدالرحيم عليوة ومحمد مصطفى نجيب.

كرس الأهرام إمكاناته الكبيرة فى سبيل هذه الدراسات وكان لآراء الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس التحرير فضل كبير فى خطة الاحتفال.

فعادة ما يصف الناس هيكل بالكاتب السياسى اللصيق بدوائر السلطة، ولا يدركون إمكاناته الثقافية وإطلالته الحضارية التى حببت إليه الشعر والفنون وحلمه بأن يقدم ترجمة وافية للمدينة العريقة بحكاياتها وفنونها، وما يريد لكل حى من أحيائها العامرة من إظهار لصناعته وتجارته وعمائره وحتى فخاره الشعبى ومساكنه وبيوته وأسواقه.

كانت مجموعة من المقالات المختارة والأبحاث التى اجتمعت لتخرج فى كتاب صدر عام 1970 يليق بالنشأة والاستمرار، لنقرأ معا قصة تأسيس القاهرة ونرى التخطيط الأول للقصور الفاطمية والجامع الأزهر الشريف.

ونتجول لنستمتع بالحكايات المختبئة فى مصر القديمة والجمالية والحسينية والظاهر والأزبكية وبولاق.

ونلتقى بالرحالة ناصر خسرو وفون هارف و تريفيزيانو، ومعهم أهم الفنانين والمعماريين ابن الدهان وبنو المعلم والتوريزى وبن سنقر فى صحبة شخصيات تاريخية مميزة مثل قنصوة الغورى والقلقشندى والجبرتى.

ولا ينس الأهرام المرأة، فيذكرنا بحكايات قطر الندى وشجر الدر وسيدة الملك، كما يهتم بالعمارة والنسيج والمسكوكات وكأنه يستحضر ألف عام من الاجتهاد والتميز داخل ضفتى هذا الكتاب.

 

الحكاية الثالثة

إبداعات سعاد ومعارك نعمات

لم تنس الأهرام العالمة الجليلة سعاد ماهر وهى أول عميدة لكلية الآثار تتحدث عبر صفحاتها عن حقيقة السيف المنسوب للرسول، صلى الله عليه وسلم، الموجود بمسجد الحسين، رضى الله عنه، حيث اشترى هذه المقتنيات النبوية وزير مصرى اسمه الصاحب تاج الدين وبنى لها رباطا على النيل عرف، حسب المؤرخ ابن دقماق، بالرباط الصاحبى التاجى الذى يعرف الآن باسم أثر النبى.

ويقول المؤرخ ابن الطولونى إن السلطان الغورى قد بنى القبة المواجهة لمدرسته لنقلها إليها، وأنها ظلت بالقبة حتى تم نقلها إلى مسجد السيدة زينب، رضى الله عنها، وبقيت به حتى نقلت بموكب حافل إلى القلعة ومنها إلى ديوان عموم الأوقاف.

ويستقر الرأى على نقلها إلى سراى عابدين وتظل به حتى يأمر الخديو توفيق بنقلها إلى مسجد الحسين ويعد لها دولابا جميل الصنع. وبعدها بزمن يأمر الخديو عباس حلمى الثانى بإنشاء قاعة خاصة تقع وراء الحائط الشرقى لمسجد الحسين والحائط الجنوبى للقبة لتبقى إلى اليوم.

وليس هذا التاريخ بمستغرب على صاحبة الكتاب الشهير «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون» الذى خطت كثير من حلقاته المميزة فى السبعينيات فى الأهرام، فمع قلمها تعرف القراء على ضريح أبى الدرداء وجامع محمد بن أبى بكر الصديق وجامع القمر والطنبغا الماردانى والإمام الليث وعقبة بن عامر وغيرهم.

وفى الأهرام أيضا كتبت «فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه» لتتحدث عن جامع الأولياء وسارية الجبل.

ومعها أيضا نتذكر عادات وتقاليد رمضان وموائد الإفطار المصرية التى كان أولها بالفسطاط فى الجامع العتيق عمرو بن العاص بمصر القديمة، كما كانت أعظم موائد الإفطار فى قصر الخلافة الفاطمى فى قاعة الذهب التى تضم سرير الملك، كما يقول المقريزى.

أما عن وسائل التسلية والترفيه، فقد عرفها المصريون مع تمثيليات خيال الظل المتعددة، ومنها ما هو خاص بالحج، ومنها ما داخل باب الفتوح التى تروى ما يدور فى حى الجمالية، وما يتناول حياة الريف، وما يحكى عن حرب التتار والحروب الصليبية.

وتأتى نعمات أحمد فؤاد بفكرة أن الدنيا واقع وقضية، ولهذا كتبت أفضل مقالاتها فى صورة قضايا، منها قضية هضبة الأهرام التى تضمنها كتابها «مشروع هضبة الأهرام» الذى صدرت طبعته الأولى فى السبعينيات.

كان دفاعها عن الأهرامات الأرض والتاريخ وتفاصيل المشروع الذى لم تعتبره ذا جدوى.

أما قضيتها الأخرى فهى قبة الإمام الحسين التى بدأت قصتها عام 1977 بوجود شروخ أصلح المهندسون المصريون أشباها لها، لكن لم تتم أى ترميمات حتى عام 1983 وقد انصرفت الأنظار عن القبة إلى توسيع مصطنع للحائط الغربى للمسجد أربعة أمتار بعرض الرصيف. وقد أصلح القبة من قبل الأثرى المصرى الكبير حسن عبدالوهاب، وقبله بسنوات طويلة الأمير عبدالرحمن كتخدا ثم هيئة الآثار.

قضايا وأفكار ووقائع وأسماء يصعب علينا أن نخطها فى كلمات أو مقال. ما قدمته الأهرام كان عينا على بر مصر وحراسة من كيد الكائدين لكل تراث وحضارة وفكر وفن نمت على أرضها فى حب واطمئنان..كانت كنوزا وقيما تحتاج إلى من يحرسها ويسهر عليها. وكانت الأهرام هى حارس التاريخ وأمينة الهوية وكل كنوزك يا محروسة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية