تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ماكرون فى الجزائر
بدعوة من الرئيس الجزائرى عبد المجيد تبّون قام نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون بزيارة الجزائر من ٢٥ إلى ٢٧ أغسطس الحالى، وتعّد هذه الزيارة الجزائرية هى الأولى له منذ دخوله قصر الإليزيه. أما آخر زيارة له إلى الجزائر فكانت فى عام ٢٠١٧ وهو لايزال بعد مرشحًا رئاسيًا .استبشرَت دوائر جزائرية عديدة بهذه الزيارة لأنها تسهم فى تهدئة التوتر الذى ساد علاقة الدولتين طيلة العامين الماضيين خاصة بعد أن وصف ماكرون الشعب الجزائرى بأنه لا يمثّل أمة، وذهب بعض المحللين الجزائريين المتفائلين إلى تعليق آمال كبيرة على وساطة يلعبها ماكرون فى الخلاف الجزائري-المغربى المزمن، وقيام وساطة جزائرية فى المقابل بين السلطة الجديدة فى مالى وقصر الإليزيه. والواقع أننا إن شئنا أن نتعامل مع الزيارة على أنها تتضمن تهدئة، فبالتأكيد هى كذلك وقد سبقتها خطوات حسن نية من الجانبين، فهناك تسمية لسفير جزائرى جديد فى باريس هو السيد سعيد موسى الضليع فى الملفات ذات الاهتمام المشترك، وهناك إعادة فرنسا لعدد من جماجم المجاهدين الجزائريين بعد أن ظلت هذه الجماجم تعرض فى متحف الإنسان فى باريس بوصفها مدعاة للفخر الفرنسي. إذن هناك خطوات إيجابية متبادلة بين الجزائر وفرنسا يمكن أن تسهم فى تنشيط العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وضبط الهجرة غير الشرعية إلى فرنسا والتنسيق بخصوص التطورات الليبية، لكن التطلع إلى وساطة فرنسية لحلحلة الأزمة بين المغرب والجزائر محكوم عليها بالفشل، فالصراع الجزائري-المغربى أحد أصعب وأطول الصراعات العربية-العربية، وهو صراع يكتسب عامًا بعد عام المزيد من التعقيدات، يضاف إلى ذلك أن فرنسا بوصفها حريصة على علاقتها بالجزائر والمغرب على حد سواء، لو أنها اقتربت من هذا الملف ستجد أمامها خطاب العاهل المغربى قبل أيام الذى طالب فيه كل شركاء المغرب بإزالة الغموض عن موقفهم من ملف الصحراء، وبالتأكيد ليست فرنسا فى وارد التضحية بمصالحها فى الجزائر لحساب مصالحها فى المغرب، والعكس صحيح، وهذا يقتضى ابتعادها عن الملف. أما ملف الساحل والصحراء فيمكن للجزائر أن تسعى لتحقيق شىء من التوازن بين روسيا وفرنسا، فمثل هذا التوازن يسمح للجزائر بهامش أكبر من حرية الحركة، يضاف إلى ذلك أنه رغم الاندفاع الروسى نحو إفريقيا، فإن مالى لا تمثّل أولوية بالنسبة لروسيا فأولويتها فى أوكرانيا، وبالتالى فإن عدم قدرة روسيا على ملء فراغ فرنسا فى هذه المنطقة قد يؤدى إلى مزيد من انتعاش الحركات الإرهابية. إذن هذا ملف مهم للجزائر أهميته لفرنسا وروسيا، أما تحقيق تقدم فيه فهو رهن ليس فقط بتغيير موقف النظام المالى الجديد من فرنسا، لكن كذلك بتغيير موقف أنصار النظام المالى السابق الذين يشعرون بالمرارة من الانسحاب الفرنسى، زد على ذلك تنامى الشعور المعادى لفرنسا فى هذه المنطقة، واعتبار أن نجاح مالى فى إزاحة النفوذ الفرنسى منها، سيؤدى لتراجع نفوذ فرنسا فى تشاد وبوركينا فاسو …إلخ، فالموضوع معقّد.
إذن هناك مصالح مشتركة بين الدولتين فى إفريقيا وفى حوض البحر المتوسط،لكن آن الأوان لإيجاد حل لملّف الذاكرة التاريخية الذى لا يلبث يعكّر صفو العلاقات الثنائية بين فترة وأخرى. وذلك أن فرنسا تهرّبت منذ استقلال الجزائر فى عام ١٩٦٢ من الاعتذار عن سقوط مليون ونصف المليون شهيد دفعوا حياتهم ثمنًا لحرية بلادهم. لذلك سنجد إدانات من الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين للظاهرة الاستعمارية لكن دون تقديم اعتذار.هذا علمًا بأن ماكرون فى زيارته الجزائر وهو مرشح رئاسى عام ٢٠١٧ قد وصف الاستعمار بأنه جزء من التاريخ الفرنسى وبأنه جريمة ضد الإنسانية وجزء من الماضى الذى يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات، وكان فيما قال عينه بالتأكيد على أصوات الناخبين الفرنسييين من ذوى الأصول الجزائرية، أما وقد وصل ماكرون لقصر الرئاسة فلقد طوى ملف الاعتذار. وبينما هو يراوغ على هذا النحو فى الاعتذار لشهداء الجزائر، فإنه فى احتفال كبير فى العام الماضى اعتذر بالفم الملآن للجزائريين الذين حاربوا مع فرنسا فى مواجهة جيش التحرير الوطنى الجزائرى، والذين تركت فرنسا معظمهم من ورائها فى الجزائر بعد الاستقلال.هؤلاء الجزائريون يُطلَق عليهم الحركيون، وبلغ عددهم ١٥٠ ألفًا عند نهاية حرب الجزائر ولهم جماعات ضغط تطالب بإنصافهم من الظلم الذى تعرضوا له فى الجزائر!. قال ماكرون فى الاحتفال الكبير الذى أقيم فى قصر الإليزيه مخاطبًا أولاد وأحفاد الحركيين أعبر عن امتناننا للمقاتلين، لن ننسى ذلك. وإننى أطلب العفو من المقاتلين الذين تركناهم وكذلك من عائلاتهم التى تعرّضت للعيش فى المخيمات والسجن والنكران. هنا إذن توجد مشكلة أخلاقية وفلسفية فلا يمكن أن يعتذر ماكرون لأعوان المستعمر الفرنسى ويتهرّب من الاعتذار لضحايا هذا الاستعمار إن كان ماكرون يؤمن فعلًا بأن الاستعمار جريمة ضد الإنسانية، فمؤدى هذه الازدواجية هو تأكيد أن القتال فى صفوف الاستعمار عمل بطولى، وهذا يستفّز مشاعر الجزائريين للمدى الأقصى. أفتح قوسين لأقول إن الرؤساء الفرنسيين السابقين حافظوا على هذه الازدواجية فى التعامل مع كلٍ من الشهداء والحركيين. وهذا يعنى أنه مازال يغلب على الذاكرة الجمعية الفرنسية النظر للجزائر باعتبارها امتدادًا لفرنسا.
إن هذا الجرح الغائر لا يتوقف عن الإيلام، وقد سبق للرئيسين تبون وماكرون أن اتفقا على معالجة الموضوع وتم تكليف شخصيتين كبيرتين إحداهما جزائرية والأخرى فرنسية لتقديم اقتراحات، وبالفعل قدّم المؤرخ الفرنسى بنيامين ستورا تصورًا لماكرون لكنه خلا من تقديم الاعتذار، وهذا دون ما يطالب به الجزائريون. وبالتالى فالأمر يحتاج مزيدًا من الجهد حتى يمكن بالفعل الحديث عن فتح صفحة جديدة فى العلاقات الجزائرية - الفرنسية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية