تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. نيفين مسعد > عن الردّ الذى سيُغيّر الشرق الأوسط

عن الردّ الذى سيُغيّر الشرق الأوسط

ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو إلى أن ردّ دولته- أى الردّ المدمّر- على عملية طوفان الأقصى سيغيّر الشرق الأوسط،وبذلك فإنه بعد سبعة وعشرين عامًا من حديث نظيره الراحل شيمون بيريز عن الشرق الأوسط الجديد فى كتابه المعروف يعود نيتانياهو ليبشرنا بنفس الفكرة لكن من مدخل مختلف.قام تصوّر بيريز على أساس أن السلام فى المنطقة قادر على تغيير مستقبلها إلى الأفضل، وأن هذا السلام لن يتحقق بدون تحقيق تكامل اقتصادى بين إمكانات دول الشرق الأوسط ومواردها الضخمة، بحيث تقدّم إسرائيل التكنولوچيا والأيدى العاملة ويقوم العرب بالتمويل المطلوب. وعندما جاء بيريز بهذه الفكرة فى عام ١٩٩٦ كان هناك أمل قائم فى التوصّل إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، ففكرته أتت على خلفية انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام ١٩٩١ ثم توقيع اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣، وهكذا اعترف الفلسطينيون بدولة إسرائيل فى مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية.لكن لم يتحقق شىء من ذلك كما نعلم، وانتقلَت السلطة من حكومة إسرائيلية إلى أخرى وصولًا إلى أكثر الحكومات الإسرائيلية يمينيةً وتطرفًا التى انفجر فى ظلها طوفان الأقصى. وهاهو نيتانياهو بعد أن استوعب صدمة المفاجأة يبشّرنا بأن تدمير غزة سيغيّر الشرق الأوسط. وهو بهذا القول إما يتصوّر أنه سيقضى على القدرات العسكرية لحماس- إن لم يستطع القضاء على حركة حماس نفسها- قضاءً مبرمًا بحيث لا تقوم لها قائمة فى الأمد المنظور، وإما أنه يعتبر أن ردّه المزلزل سيعيد عقارب الساعة إلى ما قبل فجر ٧ أكتوبر الحالى عندما كانت الصورة السائدة عن إسرائيل هى أنها الدولة القادرة على ردع أى تهديد لأمنها القومى، وبالتالى يكون لا شىء تغيّر تحت سماء المنطقة ويواصل قطار التطبيع سيره كالمعتاد وتتم تصفية القضية الفلسطينية بشكل متدرّج لكن مستمر. والتصوران على أى حال بينهما درجة كبيرة من التداخل.

 

لا يتعلّم نيتانياهو من أخطائه، وهو من أجل البقاء فى الصورة والاستمرار فى السلطة مستعد إلى الذهاب للمدى الأقصى وتكرار نفس الجرائم التى بسببها انفجر طوفان الأقصى، وهو فى هذا الموقف مسنود بدعم غربى غير مسبوق كشف ازدواجية المعايير الدولية وظلمها وانحيازها بأكثر مما حدث فى أى موقف آخر. فهو بهذا القتل الجماعى الممنهج لاثنين مليون فلسطينى يوفّر الدافع لكل فلسطينى يبقى على قيد الحياة كى ينخرط فى صفوف المقاومة، أكانت هذه المقاومة حماس أو غير حماس. أُسر بكاملها أبيدت بدم بارد ورغبة انتقامية مروعة، وعندما يقترب الموت من معارف ثم من أصدقاء ثم من أصدقاء حميمين فى فلسطين تستطيع أن تتخيّل أن كل بيت فلسطينى بالمعنى الحرفى للكلمة فقد واحدًا من أهله أو أكثر.ومثل هذه المجازر من المستحيل أن تنهى الصراع بل إنها تمدّه بالوقود اللازم لإشعاله أكثر فأكثر. قد يكون نيتانياهو استطاع أن يوجّه ضربة موجعة لحماس ضمن حملته المسعورة على غزة، لكن ضربة حماس سبقَت وأذهلَت العالم، وعناصر الحركة تقتحم الجدار العازل بالدراجات النارية وتكسر تفوق سلاح الجو الإسرائيلى بطائرات شراعية لا أبسط منها. فإن كان ثمة تغيّر فإنه حدث بالفعل لكن يوم ٧ أكتوبر لأنه هو الجديد والنوعى والمفاجئ والمبرز للتغيّر فى طبيعة حروب القرن الحادى والعشرين،أما ما تلا ذلك من ردّ إسرائيلى فمعروف ومتوقَع ومتكرّر والاختلاف فيه هو اختلاف فى الدرجة وليس اختلافًا فى النوع،فالقتل واحد والتجويع والتعطيش واحد واستهداف طواقم الإسعاف واحد، وقطع الكهرباء والاتصالات واحد، وهذا لا يُغيّر الشرق الأوسط لكنه يُعزّز سيره فى اتجاه العنف وعدم الاستقرار وانتشار الإرهاب، فكل ما يدور الآن فى غزة يوفّر لنمو الإرهاب بيئة خصبة بل شديدة الخصوبة.

طالما ظل نيتانياهو ومَن هم على شاكلته يتصورون أن جوهر المشكلة يكمن فى وجود حركة حماس وليس فى عدم حلّ القضية الفلسطينية حلًا عادلًا فسوف نظل ندور فى نفس الحلقة المفرغة.وعندما ننظر إلى الخلف نرى أنه لو امتلكَت إسرائيل إرادة حقيقية للالتزام باتفاقية أوسلو التى مضى عليها ثلاثون عامًا بالتمام والكمال،وردّت بشكلٍ إيجابى على التنازلات التى قدمّتها القيادة الفلسطينية سواء على مستوى الأيديولوچيا بقبول وجود إسرائيل، أو على مستوى الواقع بالقبول بحد أدنى من الأراضى الفلسطينية-أقول لو امتلكَت إسرائيل هذه الإرادة لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لكن نيتانياهو على العكس من ذلك أنذر بتحويل كل ركن فى داخل غزة إلى أنقاض، وهو عمل يصل إلى مستوى الإبادة الجماعية لشعب بأكمله، وبالتالى فإن المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، ولا أحد يمتلك قدرة على التنبؤ بالآتى، فالتطورات المتلاحقة تتدحرج مثل كرة الثلج. تحت يدى مقال مهم وموضوعى وسط المئات من المقالات المنحازة والمغرضة تحلل الوضع الراهن فى الشرق الأوسط.هذا المقال كتبه المحلل الأمريكى ديڤيد روڤيكس بعنوان «انتفاضة جيتو غزة»، وفيه تشبيه السياسة التى يتبعها نيتانياهو منذ طوفان الأقصى بالسياسة التى كان يستخدمها النازيون مع اليهود، وتشبيه وضع قطاع غزة الآن بوضع الحى اليهودى فى وارسو عندما احتّل الألمان بولندا فى أثناء الحرب العالمية الثانية، فكلاهما- أى الحى والمدينة محاصَر ومُسوّر ومعزول.

يضاف لذلك أنه فى تلك الفترة كانت قوات النازى تنقل اليهود نقلًا جماعيًا إما إلى معسكرات العمل القسرى، وإما إلى معسكرات الموت، وينتهى روڤيكس إلى أنه عندما يعيش شعب تحت سلطة الاحتلال فى ظروف بالغة البؤس والقسوة واللإنسانية يصبح انتفاضه أمرًا متوقعًا بل ومنطقيًا، وهو هنا يشير إلى قيام يهود وارسو بالانتفاض ضد النازى فى ربيع عام ١٩٤٣ بعد أن عوضوا محدودية إمكاناتهم ومواردهم بدقة التنظيم وجودة التخطيط، والأهم من ذلك هو ما أسماه إرادة الموت، ويقصد بذلك الحق فى اختيار أسلوب الموت وهو أسلوب المواجهة لا السُخرة والتجويع والحرق.هذا هو منطق التاريخ،بما فى ذلك تاريخ اليهود أنفسهم،ثم يأتى بعد ذلك نيتانياهو ليحدثنا عن ردّه الذى سيغيّر الشرق الأوسط،وكأنه لم يتعلّم شيئًا من تجربة يهود بولندا.

إن العبارة التى تتكرّر عن أن الشرق الأوسط لن ينعم بالاستقرار دون إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، هى عبارة صحيحة تمامًا رغم استهلاكها، فلا توجد قوة فى العالم قادرة على مصادرة حلم شعب فى إقامة دولته على أرضه ضمن حدود آمنة ومستقرة. وكل حركات التحرر الوطنى تمّر بمراحل مدّ وجذر على مدار تطورها، لكن طالما أن بوصلتها سليمة ووجهتها محددة فلاشك أنها ستبلغ هدفها فى يوم ما.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية