تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
رسائل قمم الرياض
على مدار أسبوع استضافت العاصمة السعودية الرياض ثلاث قمم مع الصين، بدءًا بقمة سعودية ـــ صينية، مرورًا بقمة خليجية ـــ صينية،وانتهاءً بقمة عربية ـــ صينية. هذه القمم بعثت بعدة رسائل بالغة الأهمية فيما يتعلَق بتحوّل التوجّهات الخارجية تعكس حجم التغيّر الذى يشهده عالم اليوم. واحدة من رسائل قمم الرياض تتعلّق باضمحلال دور الأيديولوچيا كمحرّك للسياسة الخارجية، وها نحن نرى السعودية ـــ التى لم تُقِم علاقات دبلوماسية مع الصين إلا بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إقدام مصر على هذه الخطوة فى عام ١٩٥٦ بسبب موقف المملكة الرافض للشيوعية ـــ نراها اليوم وهى تستقبل شى جين بينج رئيس الصين وتهنئه على نجاح بلاده فى عقد المؤتمر الوطنى العشرين للحزب الشيوعى الصينى، ويتفق الجانبان على إعطاء الأولوية لعلاقاتهما البينية فى السياسة الخارجية لكل منهما. والذى يراجع كمّ الاتفاقيات التى وقّع عليها الطرفان ومذكرات التفاهم التى توصّلا إليها يدرك أن السعودية والصين لم تتركا مجالًا من المجالات من أول الاقتصاد وحتى الثقافة مرورًا بالتكنولوچيا إلا وشملها التعاون الثنائى بينهما. لم يعد عالم اليوم يتسّع لمسألة تصدير الثورات والأفكار وأشكال النظم السياسية، ولقد أدركت الصين هذه الحقيقة وبنت سياستها الخارجية على عدم التدخّل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، لكن بعض الدول وحتى التنظيمات لازالت تؤمن بجدوى تصدير منظوماتها القيمية، وهذا لا ينطبق فقط على إيران وجماعات الإسلام السياسى، ونحن لا ننسى الاحتلال الأمريكى للعراق بهدف معلن هو فرض نموذج الديمقراطية الغربية عليه بل وعلى الشرق الأوسط ككل، لكن الوضع فى العراق آل إلى ما آل إليه حتى بات الجميع يطالب بتغيير النظام السياسى، ولا ننسى أيضًا المحاولات الأمريكية لجّر الدول العربية للناتو الشرق أوسطى فلا نجح فى ذلك ترامب ولا بايدن من بعده. وبينما العالم يتغيّر فإن السعودية أيضًا أخذت تتغيّر، وعلى مدار السنوات القليلة الماضية رأينًا وجهًا مختلفًا للسعودية اتسّقت فيه عملية التحديث المجتمعى الشامل داخل المملكة، وفى هذا الإطار جاء الانفتاح السعودى على الصين ـــ ضمن دول أخرى ـــ بخطوات متسارعة.
الرسالة الثانية تتعلَق بتغيَر مفهوم الشراكة الاستراتيجية من كونه مفهومًا يصف علاقة حصرية بين دولتين، إلى كونه مفهومًا يتسّع لشبكة عنكبوتية من العلاقات والتفاعلات بين الدول. إن عالم اليوم هو عالم شديد التعقيد، وفى ظل هذا التعقيد يستحيل حدوث تطابق أو حتى توافق بين مصالح أى دولتين فى كل الملفات والقضايا. وطالما الأمر كذلك فإننا بالضرورة نتكلم عن شراكات استراتيجية وليس عن شراكة استراتيجية واحدة. وعلى سبيل المثال، فإن الصين التى ارتبطت قبل نحو عامين بشراكة استراتيجية ـــ يوجد تعتيم كبير حولها ـــ مع إيران، هى نفسها الصين التى أصبحت اعتبارًا من قمم الرياض الأخيرة ترتبط بشراكة استراتيجية مع السعودية. وعكس البيان الصادر عن القمة السعودية ـــ الصينية اتفاقًا حول ضرورة سلمية البرنامج النووى الإيرانى وتعاون إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذّرية واحترامها مبادئ حسن الجوار، وجاء موقف الصين من حرب اليمن متفقًا إلى حد بعيد مع الموقف السعودى من حيث محددات هذا الحل وأطره القانونية. وعلى صعيد آخر ترتبط الصين بشراكة استراتيجية مع روسيا، وهذه الشراكة وصفها الرئيس بوتين بأنها شراكة بلا حدود، وقبل عدة أشهر قامت الدولتان بتدريبات عسكرية مشتركة فى المحيط الهادئ، لكن هذا كله لم يمنع الصين من أن تختار لنفسها موقفًا وسطًا من الحرب الأوكرانية منذ بدايتها، وهو موقف لا تشجّع به التدخل الروسى فى أوكرانيا ولا تؤيد به فى الوقت نفسه العقوبات الغربية على روسيا.وطبعًا هناك علاقة استراتيچية تاريخية بين السعودية والولايات المتحدة، لكن هذا الأمر لم يمنع السعودية من توطيد علاقتها بروسيا والصين، وهو تطوّر لابد أن تتفهمه الولايات المتحدة وتدرك أنها لم تعد قادرة على احتكار العلاقات الخارجية لحلفائها الاستراتيچيين، وما حدث مع السعودية، حدث مع الإمارات فى صفقة طائرات الرافال التى أبرمتها مع فرنسا ووصفتها وزيرة الدفاع الفرنسية بأنها صفقة تاريخية. بل إن الولايات المتحدة نفسها قفزت على صفقة الغواصات الفرنسية مع استراليا رغم أن فرنسا عضو كبير فى حلف الأطلنطى ، وتسبّب ذلك فى أزمة كبرى فى العلاقات الثنائية الأمريكية ـــ الفرنسية.
الرسالة الأخيرة تتعلّق بالدور المتعاظم للتكنولوجيا كأداة من أدوات التنافس وتعزيز المكانة الدولية للدول، وهذا واضح جدًا من المساحة التى احتلها قطاع الاتصالات وتكنولوچيا المعلومات فى وثائق قمم الرياض.إن بناء الصين شبكات الجيل الخامس فى منطقة الخليج، والتفاهم على أن تنشئ فى السعودية مجمعات تكنولوجية ضخمة تضم مراكز للحوسبة السمائية بواسطة شركة هواوى إحدى أكبر شركات الاتصالات فى العالم، هذا الجانب من التعاون الخليجى الصينى يأخذ علاقات الطرفين إلى آفاق أبعد بكثير من الآفاق التقليدية التى ترتبط بقطاعّى النفط والغاز. أمريكا لها فى الخليج استثمارات ضخمة وقوات عسكرية، ووجود التكنولوچيا الصينية فى وضع مراقبة المعلومات الخاصة بتلك المصالح يزعج الولايات المتحدة بشدة، ولقد سبق أن رأينا كيف مارسَت الولايات المتحدة ضغوطًا هائلة على بريطانيا لوقف التعاون مع شركة هواوى فى تكنولوچيا الجيل الخامس. لكن كما أن هناك مصالح أمريكية فى الخليج فإن لدول الخليج مصالحها مع الصين، وللصين أيضًا مصالحها مع الخليج، وفى طليعة تلك المصالح ربط الدول الخليجية بمشروعها العملاق: الحزام والطريق.
إن رسائل قمم الرياض تحتاج لتأنٍ فى قراءتها لأنها تتعلَق بإدراك التغيّر فى مبادئ واتجاهات وأنماط العلاقات الدولية خصوصًا دور القوى الإقليمية فى التأثير على التوازنات الدولية، وهذا التغيّر كبير كما أن هذا التأثير ملموس ومضطرد.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية