تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
جيهان زكى عاشقة الحضارة المصرية
قبل أن ألتقى بچيهان زكى منذ نحو ثلاث سنوات كجزء من وفد المجتمع المدنى المصرى الذى سافر إلى الخرطوم للالتقاء مع كل الأطياف الاجتماعية والسياسية السودانية والتحاور معها ـــ لم أكن قد سمعت باسمها من قبل، وحالها فى ذلك حال الكثير من المصريين الذين يهتمون بصناعة الضوء فى كل موقع يخدمون فيه، فإن حانت لحظة وقوفهم فى دائرة الضوء وظهورهم فى الإعلام تراجعوا خطوة إلى الوراء.
فى رحلة السودان تعرّفت على خاصيتين اثنتين فى شخصية الأستاذة الجامعية والباحثة جيهان زكي، الخاصية الأولى هى ولعها الشديد بالحضارة المصرية القديمة إلى حدّ التوحّد معها، وهناك فارق كبير بين أن تكون دارسًا لهذه الحضارة، وأن تكون متوّحدًا معها بل ناطقًا باسمها.فى ڤيديو سجّلته چيهان زكى بصوتها عن كتابها «فضفضة أثر» واسم الكتاب شديد الدلالة كما هو واضح، جعَلَت الكاتبة من نفسها لسان حال الآثار المصرية الخالدة التى يتسمّر البعض أمامها إعجابًا وانبهارًا فتصف هذا البعض بأنه فهمان لأنه يُشعر الأثر بقيمته، ويعتلى البعض الآخر تلك الآثار استخفافًا واستهتارًا فتشكو چيهان بلسان الأثر من قسوة البشر وتقول عينى عليك يا أثر.
فى رحلة السودان كنّا نخوض فى القضايا السياسية كالعلاقة مع النظام الحاكم والعلاقة بين الدين والدولة وماذا تطلب القوى السياسية من مصر، أما هى فكانت تتكلّم فى موضوعات مختلفة تمامًا من نوع كيف تعلّم ملوك الحضارة المروية السودانية من ملوك طيبة وأمرائها وكهنتها حتى صارت العلوم والرياضيات والفلسفة هى البوتقة الجامعة لأولئك وهؤلاء. نمّر على مقتنيات مكتبة جامعة الخرطوم فتنطلق منها صيحة إعجاب بنسخة مصوّرة نادرة للحياة اليومية للبشر على ضفاف النيل فى كتاب وصف مصر والنوبة. وعندما دعانا الأشقاء فى السودان إلى الرسم بالحّناء على أيادينا على سبيل المجاملة اختارت چيهان زكى أن ترسم على رسغها مفتاح النيل.
وتقودنا فكرة البوتقة هذه والتفاعل الثقافى والوجدانى بين أهل وادى النيل إلى الخاصية الثانية فى شخصية چيهان زكي، ألا وهى الإيمان المطلق بضرورة الانفتاح على الآخر، فكما أن نهر النيل واصل بين أهله، فكذلك البحر المتوسط هو نقطة للتلاقى بين الشعوب التى تعيش على ضفافه، وقِس على ذلك.
وستظّل چيهان زكى تدافع عن قيم التعايش والحوار وتوظيف الثقافة فى حل النزاعات السياسية أو على الأقل فى تهدئتها بالقول والفعل معًا. فى جامعة السوربون ـــ باريس٤ تدرّس لطلاب درجة الماجستير من أوروبا الغربية والشرقية ومن الصين الحضارة المصرية القديمة بتجلياتها العقائدية والأثرية، فتربط لهم الشرق بالغرب والشمال بالجنوب ليمتزج هذا الخليط الحضارى فى وجدانهم ويصبح جزءًا من تكوينهم الثقافى.
تكتب كثيرًا فى مقالاتها بالأهرام ويكلى عن الدبلوماسية الثقافية وكيف أنها البديل للقوة الخشنة، وبالتالى ترى أن الشخص الجدير بتمثيل بلده فى الخارج لابد أن يتحلّى بالقدرة على الإصغاء وبمهارات التعايش والوعى باحترام الاختلاف مع الآخرين. وعندما وقعَت حرب غزّة سألت چيهان: إلى أى مدى مازلتِ تؤمنين بالتعايش بين الشرق والغرب بعد ما شهدناه من ازدواجية المعايير الأوروبية والكيل بمكيالين ؟ ردّت بدون أن تترًدد: زاد إيمانى بهذا التعايش وبالحاجة إلى تصحيح مفاهيم كل جانب عن الآخر والتعلّم من درس التاريخ الذى قدّمته لنا الحرب.
إننا إزاء شخصية نسائية فاخرة بكل المقاييس، شخصية قضت حياتها كلها فى محراب التاريخ والآثار والحفريات والحضارة المصرية القديمة. تتلمذَت على أيدى كبار علماء الآثار من أمثال دكتور عصام البنّا ودكتور جمال الدين مختار وچون كلود جويون، واقترن اسمها بفتح مجالات جديدة لم يسبق للمرأة المصرية أن ارتادتها.
كانت أول امرأة تشغل منصب مدير عام آثار الوجه البحري، ثم أول امرأة تصبح مديرًا لشئون المنظمات الدولية وإدارة الآثار المسترّدة، ثم أول امرأة تترأس هيئة إنقاذ آثار النوبة، وأول امرأة تترّأس الأكاديمية المصرية للفنون فى روما، وهاهى تصير أول امرأة تترأس المتحف المصرى الكبير، وكلنا فخر بهذا الاختيار الرائع.
لكن الأهم من أنها كانت أول امرأة فى كل هذه المناصب، أن نعرف ماذا فعَلت بريادتها فى هذه المناصب، وهذا سؤال مهم لأنه بدا وكأن الأقدار اختارت لچيهان زكى ليس فقط أن تفتح الطريق لكل النساء فى أرفع المناصب الثقافية الوطنية والدولية، لكن الأقدار وضعتها أيضًا فى مواجهة عدد من التحديات الكبرى لتثبت أن المرأة ذات الجدارة والمواصفات المناسبة حين تُختار لتولّى هذه المناصب تكون على قدر المسئولية تمامًا.
وهنا يمكننا الحديث بشكل خاص عن فترة رئاستها للأكاديمية المصرية للفنون فى روما لسبع سنوات بدايةً من عام ٢٠١٢، وكيف استطاعت چيهان زكى أن تتعامل مع الأزمة تلو الأزمة فى هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ مصر الحديث. ففى مواجهة محاولات جماعة الإخوان إضفاء الطابع الدينى على نشاط الأكاديمية التى هى المنصّة الفنية الوحيدة من هذا الطراز سواء للقارة الإفريقية أو للوطن العربى فى روما، ومع شروع الجماعة فى بيع الجناح المصرى فى مدينة ڤينسيا وهو الجناح الذى يسطع ويتلألأ بتجليات الفنون المصرية ـــ تحرّكت هى لتنشّط التعاون مع الجامعات والمؤسسات الفنية داخل إيطاليا وخارجها فى أوروبا والعالم ككل.
وفى مواجهة محاولات جماعة الإخوان بعد ثورة ٣٠يونيو تحريض المصريين المقيمين فى إيطاليا وتشويه هويتهم وسلخهم عن ذواتهم، اشتغلَت هى لإقرار خطة لاستعادة الهوية المصرية لدى الجيل الثالث من المهاجرين وصارت هذه الخطة فى ما بعد جزءًا لا يتجزأ من خطة وزارة الثقافة المصرية. وفى مواجهة مسلسل حرق الكنائس والأديرة الذى عمّ مصر بعد ثورة ٣٠ يونيو، قامت هى بعقد شراكة مع متاحف الفاتيكان ومع بلدية روما لإدراج المعرض الفنى الدائم لتوت عنخ آمون والكنز المفقود الموجودين بمقّر الأكاديمية على قائمة المزارات الفنية والسياحية لمدينة روما.
وهكذا تحوّلت فترة عملها فى روما إلى فترة نابضة بالنشاط والحيوية والتشبيك مع مُختَلف الكيانات والشخصيات الثقافية داخل إيطاليا، حتى إذا ما تم اختيارها لتكون الرئيس التنفيذى للمتحف المصرى الكبير احتفت بهذا الخبر الصحف الإيطالية ووضعته على صفحتها الأولى.
چيهان زكى القارئة للغة الهيروغليفية والناطقة بعدّة لغات، والعضو الأصغر فى المجمع العلمى العريق، والحريصة على مصريتها حرصها على التلاقى بين مصر والعالم، والمرأة التى عركها العمل الحكومى وتدرّبت فيه على فن الإدارة وعلى التعامل مع البيروقراطية العميقة.. لقد كسبك المتحف المصرى الكبير رئيسًا له ونحن ننتظر منك فيه الكثير، فألف ألف مبروك.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية