تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الكتابة عن مصطفى الفقى
أن يكتب أحدنا عن الدكتور مصطفى الفقى فهذا أمر يمثّل تحديّا لأى كاتب، وذلك أن الفقى شخصية شديدة الثراء على نحو يصعب معه الإحاطة بها بشكلٍ كامل. خبراته مترامية المجالات، علاقاته الإنسانية عابرة لكل أنواع الاختلاف، حضوره طاغٍ وغيابه محسوس. هكذا فإن الاحتفال ببلوغه سنّ الثمانين يوم الأحد الماضي- أمدّ الله فى عمره- كان احتفالًا يشبهه تمامًا، ففيه من التنوّع والودّ والحميمية وخفة الظلّ ما يتلاقى مع الكثير من سماته العملية والشخصية. ففى هذا الاحتفال وُصِف الفقى بمثقف الدولة الذى يحرص على المشتركات ويشتبك مع قضايا الوطن اشتباكًا إيجابيًا، وصاحب إرادة التميّز الذى جمع فى وقت واحد بين العمل الدبلوماسى الشاق والدراسة الأكاديمية الصارمة، والدبلوماسى اللامع من يومه الذى حصل على ترقية استثنائية أقرّ له الجميع باستحقاقها وحيثما خدم فإنه حفظ لمصر مكانتها ولأبنائها فى الخارج حقهم فى التواصل، وشيخ الحارة الذى يحضر الاجتماعات الحاشدة فينادى الحاضرين بأسمائهم ويستحضر أصلهم وفصلهم ويذكّرهم بما عساهم قد نسوه، والرجل الشهم الذى ما قصده مخلوق فى طلبٍ خاص وردّه خائب الرجاء أبدًا، وصاحب الدم الخفيف الذى يحوّل حتى انتقاده إلى نكتة، والمثقف الموسوعى الذى يُطلب منه مقابلة مسئول أجنبى رفيع المستوى دون سابق إنذار فيفاجئ الجميع بأنه ملّم بآخر التطورات السياسية فى بلد الضيف، والعارف بفضل الآخرين حتى إذا أثنى أحدهم على عمله ردّ بأن هذا بفضل جهد مَن سبقوه فى المنصب. وصفه زميله فى المدرسة بالشخصية الجديّة فى إشارة إلى تفوقه فى التعليم وفى النشاط المدرسى، ووصفته حفيدته الجميلة بأنه الجَد القريب من أحفاده يتابعهم ويطمئن عليهم ولا يسمح لنشاطه العام بأن يعزله عن مجاله الخاص. أما الوصف الجامع الذى أُطلق على مصطفى الفقى فى الاحتفال بتكريمه- فهو ما جاء على لسان أحد الحضور حين قال إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس.
أما وأننا إزاء شخصية بهذه الخصوبة والغِنى فعن ماذا نكتب بالضبط فى مقال واحد؟ تغرينى قراءة المئات من المقالات التى كتبها دكتور مصطفى الفقى وجمعها له الأستاذ أشرف العشرى بحبٍ كبير- بأن أكتب عن ثالوث الديمقراطية والتعليم والفن فى مشروعه الفكرى الوطني. فالذى يقرأ مقالات الفقى يلحظ بكل وضوح اهتمامه المبكّر بالديمقراطية والحياة الحزبية عمومًا وبالوفد حزب الأمة خصوصًا، فمن بواكير مقالاته للأهرام مقال له عن مستقبل الديمقراطية فى مصر عام 1978. كما يلمس القارئ اهتمام الفقى بالتعليم، فما أكثر ما كتب عن علاقة التعليم بالديمقراطية وبالعدالة الاجتماعية وعن خطورة الآثار السلبية المترتبّة على اختلاف النظم التعليمية فى مصر. أما الفن عنده فهو يرقّى الحس البشرى والمشاعر النبيلة ويواجه الإرهاب. وهو ينفى عداء الدين للفن ويعتبر أن الطقوس فى المعابد والترانيم فى الكنائس وتلاوة القرآن فى المساجد من أدوات تبليغ الرسالات الدينية. وتغرينى المعرفة الوثيقة بالدكتور مصطفى الفقى منذ وافق مشكورًا مناقشة رسالتى للدكتوراه عن الأقليات والاستقرار السياسى فى الوطن العربى عام 1987 وقت أن كان رئيس مكتب المعلومات والمتابعة برئاسة الجمهورية - أقول تغرينى هذه المعرفة بالكتابة عن مواقفه الشخصية معى، ومن بين عديد هذه المواقف وإن أنسى أبدًا لا أنسى وقفته إلى جانبى فى أزمتى مع معهد البحوث والدراسات العربية.
لكن سأحاول أن أضع جميع هذه المغريات جانبًا وأسلّط الضوء على الملمح الأقرب إلى قلبى فى فكر وعمل الدكتور مصطفى الفقى، هذا الملمح الذى لا يختلف عليه أحد ولا يخطئه أحد، وهو تفانيه فى الدفاع عن قضية الوحدة الوطنية، وفى الاحتفال به جرى هذا المعنى على ألسنة الجميع وفى مقدمتهم الوزير منير فخرى عبدالنور. إنه مثقّف مسكون بالحرص على الوحدة الوطنية المصرية، ويترجم هذا الحرص فى مختلف مراحل حياته. اختار لرسالته فى مرحلة الدكتوراه موضوع الأقباط فى السياسة المصرية: دراسة تطبيقية عن دور مكرم عبيد باشا، وهى رسالة تأسيسية لا يمكن التأريخ لعلاقة مسلمى مصر وأقباطها من دون الرجوع إليها وعندما أصبح سفيرًا لمصر لدى النمسا حرص على إقامة أول كنيسة أرثوذوكسية هناك، ثم توالت خطوات بناء الكنائس. وفى أثناء الاحتفال بيوم ميلاده ذكرَت الدكتورة ليلى تكلا موقفين رائعين للدكتور مصطفى الفقى فى الدفاع عن الحق فى حرية أقباط مصر فى ممارسة شعائرهم الدينية وعن مفهوم المواطنة بشكل عام، الموقف الأول عندما كتبَت تكلا مقالًا عن صعوبات بناء الكنائس فى مصر وأيّدها الفقى تمامًا، ثم تطوّر الأمر إلى الحد الذى قالت معه تكلا إن بناء الكنائس فى مصر صار أسهل من بنائها فى أوروبا.
والموقف الثانى هو عندما دعت تكلا إلى أن يضّم المجلس الأعلى للثقافة لجنةً عن المواطنة وحقوق الإنسان فساندها الفقى فى ما ذهبت إليه، واليوم صارت هذه اللجنة واحدة من أنشط لجان المجلس. إنه لا يتوقّف عن التبصير بالدور التاريخى لعلماء الأزهر الشريف الشوامخ وأحبار الكنيسة القبطية الأجلاء فى ثورة 1919، ولا عن استحضار الحكمة الإلهية التى اختصّت مصر بتعددية متجانسة ذات إيقاع واحد. والفقى يبنى على المشترك فيشير إلى إيفاد البابا شنودة لأطباء مصر الأقباط المقيمين فى بريطانيا للمشاركة فى علاج الشيخ الشعراوى، ويوضّح أثر هذه اللفتة فى تحسّن العلاقة بين القطبين المسيحى والمسلم. وهو ينظر للتاريخ المصرى كسلسلة متصلّة الحلقات الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والعربية - الإسلامية، ويرى أن الشخصية المصرية فيها شىء من كل هذا الغنى الحضارى البالغ فضلًا عن تأثيرات من بعض الثقافات الأخرى. وهو يحتفى بالدكتور بطرس بطرس غالى الذى لم يعرف التعصّب الطائفى ولا انساق وراء أوهام العزلة والسلبية أو وراء هجرة الزمان والمكان، واليوم فإن الفقى عضو كبير فى مؤسسة كيميت التى يرأسها الأستاذ ممدوح عباس ويدور نشاطها وجوائزها فى مدار التخصّص الأكاديمى والانفتاح الفكرى للدكتور بطرس بطرس غالي. وعندما زار البابا فرانسيس مصر قائلًا إنه أتى ليحج إلى أرض باركتها الديانات، تلقّف الفقى تشبيه البابا وكتب من وحيه عن السيد المسيح عليه السلام الذى كان هو اللاجئ الأول لمصر صحبة أمه العذراء مريم التى اصطفاها الله وفضّلها على نساء العالمين ومعهما يوسف النجار.
دكتور مصطفى كل عام وأنت بخير وكل عقد وأنت تعطى لوطنك وأبناء وطنك.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية