تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
فى البحار مع روسيا... وفى السماء مع الصين
فى قصيدته الطويلة الى سيف الدولة الحمدانى أمير الدولة الحمدانية فى شمال الشام المتوفى 945م؛ كتب أبو الطيب المتنبى المتوفى 965م يدعوه الى تجاهل ملك الروم، وعدم منحه ذاك الاهتمام والاعتبار قائلا: وَأَتعَبُ مَن ناداكَ مَن لا تُجيبُهُ... وَأَغيَظُ مَن عاداكَ مَن لا تُشاكِلُ؛ أى أن أكثر شيء يتعب من يناديك الا ترد عليه، وأكثر شيء يغيظ عدوك ان تمتنع عن محاربته، أو الدخول فى مشاكل معه.
وهو موقف لو اتخذه سيف الدولة سيكون فيه مخاطرة؛ لأن ملك الروم كان فى تركيا المعاصرة، لأنها هى أرض الروم، وحين ترد كلمة الروم فى التاريخ الإسلامى يقصد بها تركيا حيث الدولة البيزنطية، او الإمبراطورية الرومانية الشرقية الارثوذكسية، أما الرومان فهم فى روما، وإيطاليا، حيث الإمبراطورية الرومانية الغربية الكاثوليكية.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ومع تغير الإدارة الامريكية، والتماهى الكامل لهذه الادارة مع خطط وإستراتيجيات اليمين الإسرائيلى المتطرف التى من الممكن أن تشعل الشرق الأوسط، وتضع بعض دول العالم العربي، وعلى رأسها مصر أمام اختيار مصيرى غير مسبوق، لأن هناك نخبة حالمة بأن تعود بالتاريخ ثلاثة آلاف سنة للوراء؛ لتأسيس دولة لم يعرفها التاريخ الا فى لحظتين لم تكمل أى منهما قرنا من الزمان، هذه النخبة الانتهازية نجحت فى استتباع القوة العالمية الأولى لتكون وسيلة لها فى تحقيق اوهامها، أو أحلامها، فى ظل نظام دولى غاية فى السيولة والتفكك، وانعدام المعايير، وسقوط كل القيم، والأعراف التى استقر عليها البشر طوال قرن من الزمان بعد حروب اكتوت البشرية بنيرانها، وعانت دمارها وخرابها بصورة جعلتها تبذل كل الجهد كى لا تعود لمثلها.
فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة فى تاريخ العالم العربى الذى تشتعل النيران فى كل جنباته، والذى أوشك ما يقارب نصف دوله على التآكل، والفناء بفعل حروب أهلية، وتدخلات خارجية، ومشاريع إقليمية طامعة فى الاستثمار فى حالة التفكك التى يعانيها العرب لتحقيق التمدد، والتوسع الامبراطورى الذى يعيد أمجادا ليس بذات القدم مثل أمجاد اليمين العنصرى فى إسرائيل.
فى هذه اللحظة تسلمت القيادة المصرية رسالة أبو الطيب المتنبى الى سيف الدولة الحمداني، وأصبح شعارها: وَأَتعَبُ مَن ناداكَ مَن لا تُجيبُهُ... وَأَغيَظُ مَن عاداكَ مَن لا تُشاكِلُ، فلم تستجب لكل محاولات اليمين العنصرى المتطرف فى إسرائيل، ولم تستجب كذلك لكل الاستفزازات القادمة من وراء الأطلنطي، وكان الرد نشاطا دبلوماسيا محموما، وغير مسبوق تقوم به وزارة الخارجية العريقة، والتى خاضت معركة دبلوماسية تستحق الدراسة.
وجاء الرد الحاسم خلال النصف الثانى من هذا الشهر ابريل 2025 بمناورتين عسكريتين تعيدان مصر بجدارة الى موقع تاريخى صنعته مصر فى باندونج فى إندونيسيا عام 1955، حين نجحت مصر بالتعاون مع الهند ويوجوسلافيا فى إيجاد حركة عدم الانحياز، وإعادة تشكيل، وصياغة النظام الدولى حينذاك، فبدلا من ان يكون الخيار الوحيد أمام دول العالم الثالث التى خرجت لتوها من ربقة الاستعمار؛ إما أن تدور فى الفلك الأمريكي؛ أو أن تدور فى الفلك السوفيتي، اصبح هناك طريق ثالث هو طريق عدم الانحياز لأى منهما، والتحرر الكامل من كليهما، بحيث تختار كل دولة بكامل حريتها مع من تتعاون، وبأى درجة، والى أى حد.
فى هذا الشهر صنعت مصر التاريخ مرة أخرى على الرغم من الكم الهائل من الأزمات التى تحاصرها خارجيا وداخليا، فكان الرد العملى على مطالب العابثين فى الكيان العدوانى المجاور من القوة العظمى الأولى فى العالم حتى الآن؛ أن تضغط على مصر لتقليل وجودها العسكرى فى سيناء، جاء الرد بمناورات بحرية مع روسيا، انتهت منذ يومين، وهنا ينبغى أن نشير إلى أن مصر هى القوة البحرية الأولى فى البحر المتوسط؛ قبل جميع دوله بما فيها فرنسا وإيطاليا وتركيا وإسرائيل، وبمجرد انتهاء المناورات البحرية بدأت مناورات جوية مع القطب العالمى الأعظم الصاعد جمهورية الصين الشعبية، ولأول مرة مع مصر، ولأول مرة تجرى الصين تلك المناورات فى العالم العربى وفى غرب آسيا عموما، وفى حوض البحر المتوسط.
مناورتان تدريبيتان تحملان من الرسائل ما لم تحمله أى مناورات عسكرية سابقة؛ إذا ما تم وضعهما فى السياق التاريخي، وفى الإطار الجغرافي.
رسائل «بعلم الوصول» كما تعود أهلنا فى الريف المصرى للتأكيد أن مستقبل الرسالة قد تسلمها ووضع الختم على إيصال الاستلام. تلك الرسائل تقول إن مصر لن تعتدى على أحد، ولن تهاجم أحدا، ولن تحارب أحدا، ولكن الويل ثم الويل والثبور، وعظائم الأمور على كل من يقترب من أمنها القومى العربى بمعناه الشامل الذى حدده رئيسها بخطوطه الحمراء من الخليج العربى الى ليبيا والبحر الأحمر ومصادر المياه على نهر النيل.
الاستعداد الكامل برا وبحرا وجوا، والتسلح الكامل بأفضل ما فى ترسانات العالم، وعدم الوقوع رهينة لمن كان يسلحنا بالدرجة الثانية من الأسلحة ليضمن تفوق أعدائنا علينا. اليوم مصر فى موقع مختلف، عادت الى مكانتها الطبيعية.
ولعل الاسم الذى أطلق على المناورات المصرية الصينية وهو «نسور الحضارة 2025» له دلالة، فالنسر رمز مصر، والعالم يعرفه بالنسر المصري، وهو أخف الجوارح وزنا، وأكثرها علوا فى الطيران، فلا يستطيع أى نوع من الصقور أن يرتفع فوقه، ومصر والصين حضارتان ضاربتان فى عمق التاريخ، وهما الدولتان المركزيتان الاقدم على ظهر الأرض، والزمن القادم لأصحاب الحضارات والقيم الإنسانية العريقة.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية