تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. نصر محمد عارف > سياسة الاستعلاء والاستغناء

سياسة الاستعلاء والاستغناء

منذ أن عرف البشر تنظيم مجتمعاتهم سياسيا فى صورة دول، أو اى كيانات أخرى، وهناك قاعدة أساسية تحكم تعاملاتهم، وهى الاعتماد المتبادل، والاحترام المتبادل، ولا يخرق هذه القاعدة الا الدخول فى حالة حرب،

وما أن تنتهى الحروب تعود الكيانات السياسية الى تبادل المنافع على أسس من الاحترام والتقدير لبعضها البعض بغض النظر عن قوتها، وأوزانها النسبية. وعلى هذه القاعدة ظهر مفهوم السيادة فى أوروبا فى مؤتمر ويستفاليا 1648، حيث تمتعت بهذا الحق كل الكيانات، سواء أكانت فى حجم فرنسا، أو فى حجم مقاطعة موناكو، أو لوكسمبرج، ومن أوروبا انتشر مفهوم الدولة ذات السيادة مع إعادة تنظيم المجتمعات على شاكلة الدول الأوروبية خلال عمليات الكشوف الجغرافية والاستعمار.

واليوم تجتمع ظاهرتان تعاكسان هذه القاعدة إحداهما على المستوى الدولى ممثلة فى الرئيس الأمريكى العائد الى البيت الأبيض ترامب، والأخرى فى النخبة اليمينية العنصرية فى إسرائيل.

كلاهما يعلن بصورة لا تقبل الشك خطاب الاستعلاء والاستغناء، وتترتب عليه سلوكيات عدوانية استعمارية تجاه الدول الأخرى.

 

تحت تأثير النزعة الشعبوية العميقة التى تحكم تفكير، وسلوك الرئيس الأمريكى الجديد تم رفع شعار «أمريكا أولاً» بصورة لا تحترم قواعد الاعتماد المتبادل، والمنافع المتبادلة، والاحترام المتبادل، وإنما بصورة تعيد الى الأذهان أفلام الغرب الأمريكى التى تصور كيف نشأت الولايات المتحدة من خلال تدمير مجتمعات السكان الأصليين، ومن خلال استخدام القوة المفرطة التى تفنى الخصم لكى لا يشكل تهديدا مستقبليا، تعود هذه الصورة بشكل جديد على مستوى العلاقات الدولية والتجارة الدولية،

فأمريكا أولا تعنى أن تحقق أمريكا أقصى ما تريد من مصالح بغض النظر عما يصيب الأطراف الأخرى من مضار، ومن خسائر وأزمات. وإذا وضعنا فى الاعتبار حجم القوة التى تمتلكها الولايات المتحدة الامريكية، ومدى انتشار وجودها العسكرى فى أكثر من 160 دولة حول العالم سنكون أمام مشهد من الممارسة الدولية التى تسرق مقدرات الضعفاء، وتستولى على مصالحهم بالقوة المادية.

وقد ظهر واضحا فى أقل من أسبوع بعد تنصيب الرئيس الأمريكى ردود الأفعال الدولية بين غاضب وثائر فى بنما مثلا، وخائف ومترقب ومتوجس فى أوروبا، ومستجيب ومسارع للقبول فى الشرق الأوسط.

إن سياسة الاستعلاء والاستغناء التى يتبعها الرئيس الأمريكى الجديد قد تحقق نتائج شعبوية على مستوى المجتمع الأمريكى، ولكنها لا يتوقع أن تحقق النتائج الإيجابية على المستوى الدولى، فسوف تزيد من تماسك خصوم الولايات المتحدة، وتوحدهم، سواء فى أمريكا الوسطى والجنوبية، أو مع روسيا والصين.

كذلك سوف تؤدى الى تقوية مجموعة بريكس التى نشأت أصلا لمواجهة الهيمنة الامريكية والأوروبية على العالم، وتسعى الى تأسيس نظام عالمى جديد يزيح أمريكا من التفرد بقيادة العالم، ويوزع تلك القيادة بين أطراف متعددة فيما يعرف بالتعددية القطبية،

ومن ناحية ثالثة وهذا هو الأخطر على المصالح الامريكية ذاتها، سوف تؤدى هذه السياسة الى إضعاف المجموعة الغربية، وتفكيك العلاقة بين أوروبا وأمريكا، وبالتالى إضعاف حلف شمال الاطلنطى (الناتو).

والظاهرة الأخطر على العالم العربى هى تلك الموجودة فى إسرائيل، والتى تعلن وتمارس أقصى درجات الاستعلاء والاستغناء. استعلاء يبلغ حد الازدراء لكل ما عداهم فى الإقليم، واستغناء بعيد المدى عن الجيران، وعن كل من لا يقبل بالاستعلاء العنصرى الممزوج بروح انتقامية متوحشة تعيد الى الأذهان صورة الانسان البدائى الذى لا يشبع من الانتقام، ولا يرتوى من الدماء، ولا يشفى من التشفى فى الخصم الذى تجرأ على الإيذاء ولو بقدر ضئيل.

ما تقوم به الحكومة العنصرية المتطرفة فى فلسطين جميعها، وفى لبنان وسوريا يمثل أقصى درجات الاستعلاء على الجميع، وقد شجعها على ذلك الدعم الدولى اللامحدود من العالم الغربى الذى يعالج عقده التاريخية ضد اليهود بالسماح لهم بتفريغ احقادهم وعقدهم التاريخية ضد العرب؛ الذين كانوا على مر التاريخ من أكثر الشعوب احسانا واحتواء لليهود.

هذه الحالة من الاستعلاء والاستغناء عن الجيران الاقربين، اعتمادا على أصدقاء من الابعدين سوف تجعل مستقبل الوجود الصهيونى فى فلسطين موضع شك كبير. فهل يظن عاقل أن ذلك الجيل من الأطفال والشباب الذى عايش، او تابع خمسة عشر شهرا يتقلب فيها الأطفال والنساء والشيوخ الضعفاء بين مناطق غزة بين قصف وقصف، وقتل وتدمير، لا يجدون لقمة عيش ولا شربة ماء، ولا يملكون ما يقيهم حر الصيف أو برد الشتاء، فقدوا الاب والأم، والأخوة، والأبناء، والاحفاد.

هل يستطيع هذا الجيل أن يستعيد إيمانه بالتعايش مع ذلك الكيان العنصرى الذى يتفاخر جنوده بعدد المنازل التى دمروها، والعرب الذين قتلوهم، والذى يتسابق سياسيوه بقتل المزيد من العرب وتدمير حياتهم ومدنهم ومنازلهم لنيل تأييد ودعم ناخبيهم الديمقراطيين؟

إن حالة الاستعلاء والاستغناء التى تعيشها النخبة الحاكمة فى إسرائيل ستجعل مستقبل أجيالهم القادمة فى خطر شديد، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى التى تنقل ما يحدث فى فلسطين ولبنان وسوريا لحظة بلحظة ستخلق حالة من الغضب والرغبة فى الانتقام والثأر الذى يستحيل معه وجود قيم الاعتماد المتبادل، والاحترام المتبادل، ومن ثم يصعب التعايش مع من يستعلى على جيرانه، ويستغنى عنهم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية