تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. نصر محمد عارف > رأس الحكمة.. الاقتصاد قبل السياسة

رأس الحكمة.. الاقتصاد قبل السياسة

بعد مرور أشهر خمسة على حرب الإبادة الجماعية فى غزة؛ هناك حقيقتان يصعب دحضهما، أو التشكيك فيهما؛
وهما أولا: إن لهذه الحرب هدفا واحدا، وهو التهجير القسرى لسكان غزة إلى سيناء، وبداية تصفية القضية الفلسطينية؛ خصوصا أن الضفة الغربية لم يبق فيها ما يصلح لإقامة أى كيان فلسطينى، بعد أن التهمت المستوطنات أراضيها، ومن جانب آخر فإن طرد الفلسطينيين من غزة بالقتل الوحشى، أو تهجيرهم طوعيا، أواختياريا بعد ان تم تدمير كل أسس الحياة؛ سوف يمهد الطريق لإقامة القناة الإسرائيلية. هذا الهدف الاستراتيجى الإسرائيلى قد يكون مبررا لأن تغض الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الطرف عن تخطيط حركة حماس لهجوم 7 أكتوبر 2023.
والحقيقة الثانية: إن هذا المشروع قد تحطم كليا، وبصورة نهائية أمام الموقف الصلب الذى وقفته الدولة المصرية بجميع مؤسساتها السيادية، وأن موقف مصر قد حطم كل خطط إسرائيل، وجعل خسائرها الأمنية الداخلية بلا أى عوائد استراتيجية، وخسارتها التعاطف الدولى خصوصا فى المجتمعات الغربية غير قابلة للتعويض أو الاستدراك؛ خصوصا مع الأجيال الشابة التى سوف تصنع مستقبل أمريكا وأوروبا.

وحين أدركت القوى المتحكمة فى السياسات الاقتصادية الدولية هذه الحقيقة بدأت فى عقاب مصر اقتصاديا فى أصعب لحظات تاريخها، وأكثرها خطورة من حيث الموقف الاقتصادى الداخلى والخارجي. وبدأت وكالة فيتش فى نوفمبر 2023 تخفيض التصنيف الائتمانى لمصر من B الى B -، مشيرة الى زيادة المخاطر على التمويل الخارجى لمصر، وهذا التخفيض يرسل رسالة عدم ثقة فى الاقتصاد المصري؛ بما يمنع قدوم الاستثمارات الأجنبية الى مصر، ويمنع كذلك من تقديم القروض لها، وهذا سيؤدى الى تعميق الأزمة الداخلية وانهيار العملة الوطنية، وارتفاع الأسعار، وفى نفس الوقت عدم القدرة على سداد الديون المستحقة فى عام 2024. وبعد ذلك وفى يناير 2024 قامت مؤسسة موديز وهى من كبرى المؤسسات الاقتصادية الدولية بتخفيض النظرة المستقبلية للاقتصادى المصرى من مستقرة الى سلبية، وهذه أخطر من سابقتها، لأنها تمثل حكما قاطعا بأن هناك مخاطر متزايدة على الاستثمار فى مصر.

والمأساة الكبرى أن هذه التحديات تتعاظم والشعب مازال يعيش أحلام ستينيات القرن الماضى، حين كانت الدولة هى من يطعم، ويوفر السكن، ويعلم، ويداوى، ولكن الشعب كان دائما يساند الدولة، ويعاضدها، ويقف خلفها، ويربط الحزام حين تطلب منه ذلك، ويتبرع بكل ما يملكه من قليل حين تحتاج الدولة ذلك، ويتطوع ليفدى وطنه بروحه حين يتهدد الوطن العدو التاريخى إسرائيل. هذا الحلم انتهى بموت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر..

وجاء بعده من انقلب فجأة من الاشتراكية الى الرأسمالية فى عصر الانفتاح. وهنا عانق الشيطان فى صدر مصر الملاك وتحيرت بين هذا وذاك كما تقول اغنية «التوبة» التى ألفها الشاعر عبدالفتاح مصطفى لسيدة الغناء العربى ام كلثوم. وأصبح المصرى رأسماليا فى كل ما يتعلق بمصالحه الخاصة، واشتراكيا حين يتعامل مع الدولة. وقد تفاقمت هذه الحالة حين تراجع دور الطبقة المثقفة فى مصر؛ إما لانحدار شديد فى القدرات والكفاءات، أو بسبب توابع زلزال ثورة يناير 2011، حيث تحول معظم الطبقة المثقفة الى شعبوية تنقد لمجرد النقد، وترفض لمجرد الرفض، وتجاهلت دورها، وهدمت الجسور بين الشعب وبين الدولة، ولم يعد الشعب مدركا لما تقوم به الدولة من إعادة بناء شاملة لم تحدث منذ عهد محمد على باشا، وجمال عبدالناصر. ولم تقم الطبقة المثقفة بدورها فى تصحيح المسار، واقتراح الحلول وتقديم الرؤى، وإنما اقتصرت على خطاب شعبوى حدى ساذج يقوم على الاختيار الحاد بين بناء الدولة وبين الاحتياجات المباشرة لطبقات واسعة من الشعب، فالاختيار ينبغى ألا يكون بين بناء الطرق والجسور، وبين البيض والفراخ واللحمة والبصل، وإنما يمكن الجمع بينهما بطرق عبقرية من المفترض أن يطرحها المثقف على الدولة؛ من موقعه كمثقف ليقوم بدوره العضوى فى المجتمع.

هنا يأتى مشروع رأس الحكمة ليس كتمويل خارجى، او بيع أصول؛ كما رأى البعض؛ ولكن هو فى الحقيقة شهادة إعادة ثقة فى الاقتصاد المصري؛ تقضى على كل الضرر الذى سببته وكالة فيتش، ووكالة موديز للتصنيف الائتمانى للدول، فالصندوق السيادى لأبوظبى هو ثانى اكبر صندوق سيادى عالمى بعد النرويج، وحين يضخ هذا الصندوق هذا الاستثمار الضخم فإن ذلك يعنى أن هناك ثقة كبيرة فى الاقتصاد المصرى، وأن هناك أيضا فرصا واعدة للاستثمار. ولذلك بعد الإعلان عن مشروع رأس الحكمة بدأت دول عديدة فى التخطيط للاستثمار فى مصر.

الاقتصاد العالمى يقوم فى جميع دول العالم بما فيها الإمارات العربية المتحدة ذاتها على المشروع الخاص فى جميع القطاعات بما فيها بناء المدن، والمنتجعات، ولا يوجد مجتمع يرفض ذلك بحجج ساذجة أن هذا يمثل بيعا للأرض، لان المستثمر لن يحمل المدينة ويترك حين يبيع استثماراته فيها، وهنا ينبغى التذكير بأن مدينة مصر الجديدة كانت مشروعا خاصا، واستثمارا أجنبيا قام به البارون البلجيكى ادوارد لويس جوزيف إمبان، حين أسس شركة واحة هليوبوليس، التى قامت بشراء الأرض، وبناء ضاحية مصر الجديدة عام 1906، وذهب البارون وبقى قصره وبقيت مصر الجديدة درة القاهرة التاريخية.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية