تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
حكاية الحداية والكتاكيت..!
كلما اتسعت معارف الانسان، وتعمقت رؤيته أدرك أن الحكمة الشعبية، أو الأقصوصة المتوارثة عبر الأجيال تحمل من المعانى، وتختزن من المعارف، وتختزل من الصور ما لا تستطيع حمله الكتب والأسفار. فالتجربة الإنسانية بكل أبعادها وتنوعاتها هى الحقل الأساسى للمعرفة البشرية،
بل هى المعمل الذى تُختبر فيه جميع العلوم الاجتماعية، وهذه التجربة تكثف خلاصاتها ونتائجها فى صورة أمثال شعبية، أو قصص، وحكايات تحمل رسالة الزمن الفائت إلى الأزمان والأجيال القادمة،
ومن هذا التراث الشعبى أمثولة الحداية (الحدأة)، وهى من الطيور الجارحة التى ورد فيها حديث فى صحيح البخاري؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتبرها من الدواب الفاسقة، والفسق هنا بمعنى الخداع، والتحايل، والالتفاف لتحقيق الأهداف. الحداية فى الثقافة المصرية عدو خطير للفلاح الفقير الذى يعتمد فى رزقه على الدواب، والطيور التى يربيها فى غيطه أو بيته.
فقد تعود الفلاح ان يستخدم سطح البيت لتربية الكتاكيت لتكون بعد ان تكبر دجاجا للذبح، أو للبيض واستدرار دخل يومى له. وأمثولة الحداية تقول «الحداية لا تنقط كتاكيت» أى لا تسقط منها وهى تطير فى السماء كتاكيت فعلى العكس هى تأخذ الكتاكيت من الأرض للسماء.
وهذا المثل يقال حين يراد النفى القاطع لتوقع حدوث فعل ما من قبل شخص طباعه على العكس من ذلك الفعل، فلا يمكن توقع احترام الحريات، أو احترام الأقليات، او تقدير الحرية الدينية، أو تطبيق الديمقراطية من قبل شخص كان طوال عمره يقتل على الهوية، ويقتل لمجرد المخالفة فى الرأي. فتوقع أن يأتى منه عكس ما درج عليه، وتعود على سلوكه، وصار طبعا من طباعه خيالا من الخيال.
ومن يتوقع هذا واهم تماما مثل الذى يتوقع ان تسقط الحداية عليه من السماء كتاكيت هدية من عندها. وهذا فى حد ذاته توهم او سراب خادع. لم تعرف المجتمعات بخبراتها العريضة انه يمكن التخلى عن الطباع بصورة سريعة وفجائية، حتى وإن تم ذلك فالمثل يقول ان «الطبع يغلب التَطبُّع».
وقد ذكر الشاعر عبدالملك الاصمعى المتوفى 831 حكاية عن امرأة أعرابية كانت ترعى شاةً، تقتات على لبنها، وقد وجدت ذئباً حديث الولادة فعطفت عليه، وأخذته معها إلى بيتها، وجعلته يتغذى على لبن تلك الشاة، ومع مرور الأيام كَبُر الذئب، وعادت الأعرابية إلى بيتها فى أحد الأيام فوجدتْ الذئبَ فى غيابها قد هاجمَ الشاة وأكلها قبل عودتها، فحزنت وبحرقة ولوعة عصفت بفؤادها أنشدت قائلة:
بَقرتَ شُويْهَتى وفَجعتَ قلبى ... وأنتَ لِشاتِنا ولدٌ رَبيبُ/
غُذيت بدُرها وربيت فينا ... فَمنْ أنبأك أنّ أباكَ ذيبُ/
إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ ... فلا أدبٌ يفيدُ ولا أديبُ.
وقد سارت هذه الحكاية مثلا تتوارثه الأجيال تكرر فيه البيت الأخير، وأصبح من قواعد السلوك ان الطباع السيئة لن يصلحها شيء، ولن يقدر على إصلاحها أحد.
بل إن هناك من اعتبر ان توقع حدوث عكس الطبائع نوع من أكثر المستحيلات حدوثا، فهذا أبو الحسن على التهامى من شعراء العصر العباسى توفى 1025م يقول:
وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها... مُتَطَّلِب فى الماءِ جَذوة نارِ/
وَإِذا رَجَوتَ المُستَحيل فَإِنَّما ...تَبنى الرَجاءَ عَلى شَفيرٍ هارِ.
فكما لا يمكن توقع ان تستخرج نارا مشتعلة من وسط النهر، كذلك لا يمكن أن تتوقع أن يأتى الإنسان بعكس ما طُبع عليه.
وقد يقول البعض إن هناك التقية كممارسة دينية يظهر من خلالها الشخص عكس ما يبطن، وهناك القدرات العالية على التمثيل بأن يقوم الشخص بدور لفترة معينة عكس طبائعه كما يحدث مع الجواسيس المحترفين،
ولكن الحقيقة أنه حتى الجواسيس يؤدون هذا الدور لفترة محدودة، وفى أوقات معلومة؛ الا الحالات النادرة منهم مثل لورنس العرب، أو رأفت الهجان.
وخلاصة هذه الحكايات ان ما يحدث حاليا فى سوريا هو من قبيل استراتيجيات الحداية أو سياسات الذئاب المنفردة أو الجماعية، الموقف فى مجمله مشهد مسرحى ناجح أداره مخرج بارع بمساعدة طواقم فنية من القوى الغربية، وأذنابها أو أذيالها،
وقد يكون الهدف الخفى أن تصبح سوريا أعشاشا للحدايات، أو أوكارا للذئاب تحقق هدفين استراتيجيين للعالم الغربى فى أوروبا وأمريكا وهما:
أولا. إرباك المنطقة والمحافظة على حالة التخلف فيها، ومنع أى من دولها من اختراق حجب التقدم والازدهار، ومنافسة العالم الغربى فى هذا المضمار، أو التفوق عليه، وهذا هاجس خطير بعد أن أصبحت دول فى المنطقة مثل دولة الامارات العربية المتحدة تنافس الغرب فى مجالات متعددة أهمها جذب الاستثمارات، واستقطاب المليارديرات للعيش فيها.
وثانيا. هناك مصلحة عليا أوروبية بصورة رئيسية فى التخلص من المسلمين غير المندمجين فى المجتمعات الأوروبية من المتطرفين والمتعصبين، ومن أولئك الحالمين بالعيش فى ظل خلافة إسلامية تاريخية طوباوية غير متحققة.
لقد كان خلق داعش ذاتها لتحقيق أهداف منها هذا الهدف، ولذلك تسامحت الدول الغربية مع خروج الآلاف منهم للانضمام الى جبهة النصرة التى كان يقودها أبو محمد الجولانى.
الحكمة الشعبية قد تفيد كثيرا فى التفكير الاستراتيجى، وفى حماية الأمن القومى، خصوصا فى أوقات تفجر العواطف والأفكار الغرائزية التى تدفعها شهوات الغضب والانتقام والسلطة، وتغيب عنها الحكمة والتدبر العميق.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية