تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
العالم فى وقت مستقطع!
قد لايوجد وصف يشخص حالة العالم فى هذه اللحظة التاريخية أكثر دقة من ذلك المشهد الذى يحدث فى مباريات كرة القدم، حين يصاب أحد اللاعبين، ويستقطع وقت من المباراة، يتوقف فيه الحكم ومساعدوه عن تطبيق قوانين اللعبة، ويتحرك اللاعبون فى كل اتجاه دون وجود أى قواعد تحدد حركاتهم، إنه الوقت المستقطع، أو ما يطلق عليه بالإنجليزية Timeout، هذه اللحظة التى يمر بها النظام الدولى تشبه هذا المشهد بكل تفاصيله الدقيقة.
هى لحظة لم تتكرر فى تاريخ النظام الدولى سواء فى الانتقال من تعدد الأقطاب إلى القطبية الثنائية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، أو فى الانتقال من القطبية الثنائية إلى القطبية الواحدة حينما تفكك الاتحاد السوفيتى فى سنة 1991.
لم يمر النظام الدولى بمثل هذه اللحظة التى تراجعت فيها كل المعايير الحاكمة لسلوك الدول، وتوقف فيها القانون الدولى عن النفاذ، بل أصبح القانون الدولى ومؤسساته فى موضع العقاب والتجريم والعقوبات. فمع مجيء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب انتقل العالم من حالة الانضباط القانونى، والأخلاقى، والقيمى إلى حالة أخرى، حيث القانون يصنعه ويفرضه القوى ليحقق مصالحه، وعلى الآخرين النظر إلى معادلة المصالح والمخاطر عند كل تصرف يقومون به. فمن يريد أن يحافظ على مصالحه ويتجنب المخاطر عليه أن ينصاع للسيد الذى يصنع القانون وينفذه من وحى خاطره، وليس بالاعتماد حتى على مؤسسات دولته.
لحظة السيولة القانونية فى العالم تركت العديد من القوى العالمية فى حالة من الارتباك لا تعرف كيف تحافظ على مصالحها من جانب، أو تتحرك من أجل تحقيق تلك المصالح خارج الصيغ القانونية والأخلاقية المتعارف عليها من جانب آخر. فما يحدث مع فنزويلا على سبيل المثال نموذج واضح لهذه الحالة، فهناك إعادة تصنيع لحالة العراق 2003 لتحقيق نفس الأهداف التى كانت فى العراق، وبحجة المخدرات هذه المرة وليست بحجة الأسلحة الكيميائية. وما قامت به إسرائيل فى الضفة الغربية وغزة هو استغلال لهذه السيولة فى تحقيق الاساطير التاريخية غير المثبتة.
ان احترام القانون أو المحافظة على حد أدنى من الانضباط القيمى، الذى يحفظ سمعة الدول ومكانتها، ويحقق لها القوة الناعمة قد حلت محله القوة الخشنة، وتلك معادلة صعبة للغاية لأن القوة الخشنة دائما تنتقص من القوة الناعمة، وتترك المجتمعات بدون قاعدة قيمية وقانونية تحفظ مكانتها وسمعتها، لأن القوة الخشنة فى الغالب تكون مندفعة ويغريها الانتصار، ويزيدها طمعا ضعف الأطراف الأخرى،
هذه الحالة التى يعيشها العالم ستقود فى النهاية إلى العديد من المسارات المستقبلية أهمها:
أولا: ولادة النظام الدولى الجديد سواء كان متعدد الأقطاب أو أحادى القطبية، لان إعادة إنتاج نظام القطب الواحد اصبح احتمالا مستبعدا لأن استراتيجية الأمن القومى الأمريكى الجديدة التى أعلنها الرئيس ترامب تستبطن «مبدأ مونرو»، الذى اعلنه الرئيس الأمريكى جيمس مونرو فى 2 ديسمبر 1823 يدعو إلى انغلاق أمريكا فى العالم الجديد أى فى الأمريكتين الشمالية والجنوبية، فالنظام الجديد المتوقع خروجه من رحم هذه المرحلة سيكون متعدد الأقطاب، ولن تتم ولادته بصورة تلقائية. لذلك فإن استمرار حالة السيولة سيكون لفترة أطول لأن العالم الغربى لن يسلم للصين أو لروسيا أن تكونا شريكين فى إدارة العالم بسهولة.
ثانيا: إن هناك توجها لتهميش الدولة، فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى، ودخول فاعلين جدد فى حلبة السياسة ستكون هناك قوى أكثر تأثيرا فى صناعة القرار الدولى هى أقرب للشعبوية منها للمؤسسية، وأقرب لرأى العوام منها لتفكير النخب المثقفة وبيوت الخبرة. وسيضطر السياسيون فى المستقبل إلى مراعاة تلك الجماهير، ووضع اختياراتها فى الحسبان، وليس الاستماع إلى بيوت الخبرة والمستشارين، فقد أصبح هناك مليارات البشر الذين يتابعون كل شيء ويكونون آراءهم بعيدا عن حراس البوابات، وعن المؤسسات الرسمية، كل ذلك سيقود إلى تفكك البنى المؤسسية والسياسية للمجتمعات. فلم يعد مفهوم الدولة كما كان، ولم تعد الحكومات قادرة على أن تصيغ الرأى العام لشعوبها، بل على العكس أصبحت تتلمس توجهات شعوبها وتحاول أن تسايرها، ولعل موجة الاعتراف بدولة فلسطين يمكن النظر إليها من هذه الزاوية.
ثالثا: إن مستقبل المنظمات الدولية الإقليمية أصبح على المحك، فلم يعد لها ذلك التأثير السابق، ولا يتوقع أن يكون لها مستقبل بعد هذه المرحلة، بل سوف يتفكك العديد من هذه المنظمات التى لم تعد قادرة على أن تفعل شيئا أمام هذا التوحش الدولى، الذى ظهر مع القيادة الأمريكية الجديدة، والذى أصبح يضرب فى كل مكان سواء لفرض السلام، أو لإشعال الحروب أو لتحقيق المصالح الفردية والأنانية بفرض حالة من التجارية الدولية لا تحقق مصالح كل الأطراف. هذه الحالة ستؤدى فى النهاية إلى ضعف المنظمات الإقليمية التى فشلت فى حماية دولها ومجتمعاتها وتركتها تواجه الوحش التجارى الدولى.
رابعا: فى ظل هذه الحالة سيكون هناك توجه لدى شعوب العالم الثالث خصوصا للميل نحو القوة بدلا من القانون، أو القيم، أو المنظمات الدولية. وهذا سيدفع الكثير من المغامرين فى جيوش العالم الثالث، خصوصا فى إفريقيا، إلى القيام بانقلابات عسكرية لتغيير النظم تحت حجة حماية الأوطان والحفاظ على مواردها وإنقاذ شعوبها من توحش المستعمر الجديد.
إلى أن ينتهى هذا الوقت المستقطع ويعود العالم إلى قواعد اللعبة سنظل جالسين فى مدرجات العالم منتظرين نتيجة المباراة الدولية ومن سيقرر مصير العالم القادم.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية