تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
هيكل.. العطاء الدائم
نتذكره كثيرًا كلما ألحت ظروف دولية مختلفة أو تغيرت الأوضاع الإقليمية أو تباينت مظاهر السياسة المصرية، فهو حكيم السياسة، وفارس الكلمة والنموذج المبهر فى سماء الصحافة، عرفته عن قرب لسنوات طويلة قارئًا منذ سنوات الشباب الباكر مرورًا بالتعامل معه فى مناسبات الأهرام والندوات السياسية التى كان يشرفها بمكانته الرفيعة وقيمته العالمية،
إنه الأستاذ الذى اقتربت منه بدءًا من عملى فى مؤسسة الرئاسة وترددى عليه فى مكتبه أو فى منتجعه الريفى فى (برقاش) وآمنت بعمق أن الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل كان كفاءة عالية وشخصية استثنائية لا تتكرر كثيرًا، وقد آثرنى بكثير من رعايته لذلك كتبت فى مناسبات كثيرة عن وقائع جرت بينى وبينه وزدت على ذلك أن كتبت مقدمة إضافية لكتاب أصدره الكاتب الصحفى الراحل مفيد فوزى عن (هيكل الجورنالجى) كما كان يسميه الأستاذ مفيد، ورغم اختلاف هيكل مع الرئيس الراحل مبارك – وقد كان اختلافًا هادئًا بلا صخب أو ضجيج - على غير ما كان الخلاف بينه وبين الرئيس الراحل أنور السادات أو قربه الشديد مثلما كان الأمر بينه وبين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فلقد أعطانى الرئيس مبارك مساحة من الحركة رغم حساسية موقعى فى العمل المباشر معه وكان من بين ما سمح لى به أن أواصل عادة زياراتى الدورية للأستاذ فى محاولة لشحن بطاريات الذهن وتجديد طاقة الفكر لرؤى جديدة وملاحظات ثاقبة ومعلومات شافية،
ولقد كان الرجل خصب الخيال، متمرسًا بالتحليل السياسى الرفيع، ملمًا بالسياستين المحلية والدولية، عارفًا بحقائق الأمور مع إلمام كامل بالتاريخ داخليًا وخارجيًا كما كان متعمقًا فى دراسة الحضارات والثقافات وفهم القيادات وتحليل الشخصيات، وفوق كل هذا وقبله حاز عددًا هائلًا من المعارف الشخصية فى كواليس السياسة ودهاليز الدبلوماسية، فهو الخبير بالانتخابات الأمريكية منذ أربعينيات القرن الماضى والعارف بأحوال الحرب الكورية والأوضاع فى البلقان والملم بأطراف أزمة التأميم الإيرانية وهو صاحب الكتابات التى دخلت التاريخ من أوسع أبوابه لأنه جمع حصيلة كبيرة من التعرف بالشخصيات الكبرى من زعامات العالم المختلفة،
وأتذكر أنه عندما أدخله الرئيس الراحل السادات إلى السجن فى غمرة أحداث سبتمبر عام 1981 وفى زمرة كل أطياف اللون السياسى والدينى كنت وقتها دبلوماسيًا فى العاصمة الهندية أتلقى كل يوم احتجاجات على وضع المحبوسين وكلها تتحدث عن محمد حسنين هيكل صاحب الشخصية المرموقة والاسم اللامع،
وفى ظنى أن أمجد فترات حياته ليست هى فقط سنوات العصر الناصرى إذ إن الفترة التى أعقبت رحيله عن الأهرام حافلة هى الأخرى بالأعمال الجديدة والكتابات الرصينة والرحلات الصحفية ذات الصدى الواسع مثل رحلته الآسيوية وهو بعيد عن السلطة ولكنه يمسك بالقلم ليلهب الذهن ويحرك الفكر وما أكثر ما أحفظ له من مواقف وما أتذكر له من أقوال،
ولقد شعرت دائمًا بقربى الفكرى معه وتجاوبى مع رؤاه وقد شاهدت له مؤخرًا بعد رحيله تحليلًا عن الجذور التاريخية البعيدة لمشكلات مياه النيل التى وصلت بالمنطقة إلى سد النهضة وكيف أن ذلك الرجل قد تنبأ بالكثير مما حدث ورأى بذكائه وفطنته جزءًا كبيرًا من الأحداث قبل أن تقع، ولم تكن حياة هيكل السياسية والصحفية سهلة فقد كانت له خصومات ربما كان معظمها من طرف واحد إذ كان يترفع عنها ولا يبالى بها، وأتذكر أننى وقفت أمام جثمانه المسجى فى محراب مسجد الحسين رضى الله عنه عندما اختار الحاضرون الدكتور عبدالله النجار الأستاذ فى جامعة الأزهر وكاتب هذه السطور لنقول كلمتى الوداع لرجل هو الظاهرة بعينها وهو الفكر الخلاق والقلم المتدفق لأجمل ما قرأنا فى الصحافة العربية خلال العقود الماضية،
وليسمح لى القارئ بأن أختم هذا المقال برسالة منه لى اخترتها من بين عدد من الرسائل المكتوبة والموقعة فى مناسبات مختلفة بعضها أفراح كزواج ابنتيَّ سلمى وسارة والبعض الآخر فى وفاة أمى وأبى وقد حرص الرجل بذوقه الرفيع وشخصيته الراقية على أن يحضر معظم المناسبات السعيدة والحزينة فى حياة أسرتى، وكنت أود أن أضع إحدى رسائله بصورة زنكوجرافية فى المقال ولكن استبدلت ذلك بالنص كما هو مع تاريخ الرسالة عندما دعوته لحضور زفاف ابنتى الصغرى وكان لديه ارتباط حرص على استبعاده ليشاركنى يومًا من أحلى أيام العمر لقد قال الأستاذ فى رسالته:
أخى الأعز الدكتور مصطفى الفقى:
يبدو لى أن طارئًا لم أستطع حتى الآن دفعه – يوشك أن يحرمنى الليلة من بهجة وفرحة يوم أعرف أنه عزيز عليك وغال – وهو كذلك بالنسبة لأصدقائك وهم كثر وكل عارفى قيمتك وأعتبر نفسى أحدهم. ولسوف أحاول قدر أن أستطيع أن أجيء على الأقل لكى أراك وأتابع مرة أخرى دبلوماسيتك الهائلة فى لقاء ضيوفك على اختلاف ألوانهم وأنواعهم وأنا أعرف أن هناك رسامًا مبدعًا يختبئ داخل أعماق السياسى فيك وأكاد أحيانًا أرى خطوطه على شفتيك حين تبتسمان وفى جفنيك حين ترخيهما لتخفى وحين تفتحهما لتقول، وأجدنى استطردت دون داعٍ بينما مقصدى أن أهنئك من قلبى وأن أعتذر إليك إذا أطبقت الظروف، أرجوك أن تنقل للعروس ولأمها كل محبتى، وأما العريس فله تهنئتى على قلب عرف بهواه كيف يختار، وأحس بعقله متى يحب.. وسلمتم دوامًا.
محمد حسنين هيكل
القاهرة فى 8 أكتوبر 1998
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية