تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
جريمة القرن
كلما طالعت أخبار مجزرة غزة ومأساتها المروعة ومجاعتها القاسية التى تفوق التصور أدركت أن التاريخ الإنسانى يعيد نفسه بحق فى فترات مختلفة من الزمن، وقد تختلف بعض الأساليب نتيجة اختلاف الظروف التاريخية والمعطيات الجغرافية، ولكن تبقى الجريمة واحدة بأركانها التى تخترق حدود القيم والأخلاق والقانون وتنتهك كل الأعراف والمعتقدات الدينية، فالرجل الأبيض عندما وطئت أقدامه أرض العالم الجديد استبدت به شهوة القوة والسيطرة وغابت عن ضميره دوافع الأخلاق ونوازع الشرف، وأصبح بحق مخلوقًا دمويًا ووحشًا كاسرًا يجوب أنحاء الغابة بحثًا عن ضعيف أو مريض أو صغير ليفتك به! حيث جرت فى ذلك الوقت إبادة جنس بكامله تقريبًا من الهنود الحمر السكان الأصليين لأرض العالم الجديد التى وطئها الأوروبى الهارب من العدالة أحيانًا ومدمن الجريمة أحيانًا أخرى، وتولدت من تلك الظروف على هذا النحو جريمة إبادة جنس بشرى بكامله، والقضاء على أهل الأرض الأصليين واقتلاع جذورهم تمهيدًا لإحلال بديل عنهم.
ومازالت ذاكرة الإنسانية تحتفظ بالقصص المروعة لعمليات الإبادة التى مارسها الغازى الأبيض بجبروت وبدون رحمة وقسوة بلا أى خلق مستخدمين كل الأسلحة التى وصلت إلى المعرفة الإنسانية فى ذلك الوقت بدءًا بالقتل المباشر، ثم إغراق سفن العبيد من الأفارقة القادمين فى سلاسل من الموانئ الغربية للقارة السمراء إلى أحراش العالم الجديد وأراضيه الواسعة وخيراته الوفيرة وبحيراته الفريدة، فتحركت نوازع الشر لدى القادم القاتل ليقتلع جذور السكان الأصليين من أرضهم كى تحل مكانها جحافل الوجود الغربى القادم المتعطش للقتل والإبادة الحريص على التدمير والإفناء.
وها هو التاريخ الإنسانى الساخر بعد عدة قرون يعيد السيناريو من جديد على أرض فلسطين، فما أشبه الليلة بالبارحة، فالفلسطينيون بتعبير دقيق هم الهنود الحمر الجدد الذين يجرى إقصاؤهم بالقتل والتهجير والترويع ليبرحوا أرضهم ويتركوا ذكريات الأجيال وميراث الآباء والأجداد حتى يرتع أحفاد رواد الحركة الصهيونية فى أرضٍ ليست لهم واغتصابًا لما ليس من حقهم حتى تكون هناك دولة يهودية خالصة على أنقاض رقائق التاريخ الطويل ومسيرة الحضارات المتراكمة فى قلب الشرق الأوسط وعلى ناصية البحر المتوسط بحيرة الثقافات وملتقى الديانات، وها هى جريمة العصر تبدو وكأنها جريمة كل عصر، فالفارق الوحيد بين مجازر غزة وجرائم الرجل الأبيض السيد القادم إلى أرض الهنود الحمر هو أن الدنيا قد اختلفت والعالم قد تغيّر فالتقدم التكنولوجى والإنجازات الهائلة التى ارتبطت بنوعية وسائل الاتصال المعاصر كشفت الغطاء بالصوت والصورة عن جرائم إسرائيل وأعادت إلى ذاكرة الأجيال ما قرأوه عن جرائم الإبادة الكبرى التى عرفها التاريخ فى مراحله المختلفة.
وإذا كنّا نجد عذرًا على صمت البشرية أمام جريمة إبادة الهنود الحمر بسبب طبيعة تلك العصور وطفولة الإنسانية من الناحية القانونية والأخلاقية، إلا أننا لا نجد عذرًا لمليارات البشر اليوم وهم يشاهدون معارك الإفناء والمذابح المروعة التى ترتكب ضد الناس فى نهاية الربع الأول من القرن الحادى والعشرين! ولقد شاهدنا على شاشات التلفزة والمواقع الإخبارية والمصادر الإعلامية المختلفة عمليات الاغتيال الجماعى والإعدام الميدانى ضد بشر ضاعت حقوقهم واحتلت أرضهم ومازال هناك من يتوعدهم شرًا، ويرسم خريطة لمسار الجريمة فى غطرسةٍ وتبجح واستهانة كاملة بقواعد القانون الدولى وقرارات الشرعية التى تحتكم إليها الدول وتلوذ بها الشعوب، إننا أمام دراما العصر بمشاهدها المؤلمة الحزينة الملوثة بأركان الجريمة والمخضبة بدماء المدنيين الأبرياء.
ولقد تجاوز الظالمون المدى وأمعنت إسرائيل نيتانياهو وإسرائيل اليمين الدينى المتطرف فى تلطيخ أيديهم بدماء الفلسطينيين، ليقيموا وطنًا يهوديًا متعصبًا لا يعترف بالغير، ولكنه يحوز أرضهم ويبتلع حقوقهم، ويدمر عامدًا تاريخهم وتراثهم، ويعصف بمستقبلهم، ولكن هل تبقى الإنسانية المتحضرة بشعوبها المتصلة صامتة إزاء ما يجرى وما تشهد؟ وهل تقبل البشرية بأفكار إنسانها المعاصر وحضارته المزدهرة بكل تلك الدماء؟ هل يقبل العالم المتحضر اليوم بتكرار جرائم الغرب على هذا النحو المروع الذى نشهده بالصورة البشعة فى عصرنا الذى تنامت فيه حقوق الإنسان وازدهرت فى الوقت نفسه حركات التحرر الوطني، كل ذلك أمام مشهدٍ مؤسف وصعب لا نظير له من قبل .. إن دهاء التاريخ يجعله يكرر الجرائم الكبرى على المسرح البشرى ليدرك سكان كوكب الأرض أن المأساة مازالت مستمرة، وأن منطق القوة هو الذى يسود وليس مفهوم العدالة التى يتطلع عليها البشر حاليًا أكثر من أى وقت مضى!
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية