تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أيامٌ فى لندن

تلقيت دعوة كريمة من صديق عربى كبير يدعونى باسم جماعة من خريجى كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، والتى حصلت منها على درجة الدكتوراة فى فلسفة الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1977 تحت إشراف أستاذى الشهير فاتيكيوتس وكان الممتحن الرئيس هو البروفيسور الأمريكى المعروف روجر أوين، وقد كانت الدعوة للحوار الحر حول الأوضاع الإقليمية فى الشرق الأوسط والظروف العالمية المحيطة!

وقد قبلت الدعوة رغم ظروفى الصحية الضاغطة ووصلت إلى العاصمة البريطانية وكأنما أهبط فيها للمرة الأولى التى حدثت منذ ثلاث وخمسين عامًا، فرغم تكرار زياراتى المنتظمة للمدينة التى عملت فيها ودرست فى جامعتها وأنجبت ابنتيّ على أرضها وزرتها عشرات المرات وامتلكت شقة فى أحد أحيائها من عام 1973 كما أننى ما زلت حتى الآن مرتبطا بها عاطفيًا لأنها شهدت سنوات شبابى

وهى مدينة يمكن أن يحقق فيها من يشاء معظم ما يريد من تحصيل للعلم وتراكم للثقافة إلى الرعاية الطبية والتأمين الصحى وصولاً إلى التسوق بكل أنواعه والانغماس فى أسباب التسلية أيضًا لمن يشاء

وقد لاحظت فى هذه المرة أن أشياء كثيرة قد تغيرت، فعلى الرغم من ثبات الطراز المعمارى خصوصًا لوسط المدينة بسبب الالتزام القانونى بإجراء التعديلات الداخلية فقط عند تجديد المبانى، واحترام الواجهات والمظهر الخارجى دون تغيير وفقًا للتقاليد البريطانية، لذلك فإنه يخيل لمن يزور وسط المدينة وأحياءها التجارية خصوصًا حى المال أن البشر والحجر لا يتغيران!

وقد اكتشفت أن المدينة التى أزورها للمرة الثانية بعد ظهور وباء كورونا قد أصبحت أكثر أمركة - إذا جاز التعبير - وأقل أوروبية، لأن التقاليد الراسخة لدى الجزيرة البريطانية التى شكلت جزءًا كبيرًا من ضمير العالم ووجدانه كانت هى أيضًا مركز الثقل فى ميلاد الدبلوماسية العالمية بمفهومها المعاصر، وما من مشكلة دولية أو معضلة تاريخية فى العلاقات المعاصرة إلا وبريطانيا جزء منها أو مؤثرة فيها أو شريك فى مستقبلها، بدءًا من القضية الفلسطينية وصراعها الدامى ومشكلة كشمير وتجمدها الطويل، فضلاَ عن عشرات الأزمات العنصرية والسياسية فى العلاقات الدولية بل والشئون المحلية أيضًا، إنها بريطانيا التى برعت فى الغموض السياسى وتصنيع المشكلات عند اللزوم، ونجحت فى تأكيد سياسة فرق تسد ووضعت الأسس القديمة للأركان التى يرتكز عليها الهيكل المعاصر للعلاقات الدولية والنظريات الدبلوماسية القائمة، كما أنها صانعة التقاليد الراسخة والرموز الباقية لحركة الشعوب ومسارات الأمم!

إن بريطانيا أيضًا الأم الشرعية للظاهرة الاستعمارية وهى المتحف الدائم للزمان والمكان، وأنا شخصيًا أنظر إلى لندن أحيانًا باعتبارها عاصمة شرق أوسطية, وليست فقط عاصمة بريطانية أو أوروبية، خصوصًا أنها ملتقى كل الأجناس البشرية والألوان الجغرافية بل هى أيضًا مستودع للخبرات والكفاءات التى تراكمت فى تاريخ الإنسان على مر العصور، ولقد لاحظت أن مدينة لندن التى كانت تسمى مدينة الضباب قد أصبحت الآن مدينة متعددة الأغراض متنوعة الوجوه، كما لفت نظرى زيادة الوجود الأجنبى فى ميادين تلك المدينة العتيقة وشوارعها الباقية وتزايد عدد الآسيويين بشكل ملحوظ على نحوٍ يكاد يتفوق على الأصول الإفريقية من قاطنى عاصمة الاستعمار القديم، ولقد ظلت المحال الكبرى والمتاجر ذات الأسماء المعروفة مركز جذب للقادمين إليها أو الوافدين عليها!

 ولقد أدى ثبات الطرز المعمارية مع ديمومة التقاليد الاجتماعية والمظاهر الثقافية إلى نوع من الثبات النسبى الذى يؤدى إلى درجة من الاستقرار فى العلاقات الإنسانية المتشابكة, خصوصًا أنها لا تزال مركز تواصل رئيسى بين الشرق والغرب بين القديم والحديث بين نظام ملكى دستورى وبدائل له فى دولٍ أخرى اتخذت منحى جمهوريًا عصريًا يقترب من النظم البرلمانية أحيانًا ويتجه إلى المظاهر الرئاسية غالبًا، إنها بريطانيا التى تركتها وهى تسعى بإلحاح لممارسة دور فى الاتحاد الأوروبى الذى كانت عضوًا فيه أو مجموعة الكومنولث التى تقودها.

فالجميع يؤمن أننا فى قارب واحد، إما أن تنجو به البشرية أو نغرق معا، ولقد تبنت لندن فى العقود الأخيرة سياسة غامضة تدعم بها تيارات التطرف الإسلامى، وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، ولا عجب فهى الدولة التى فتحت أبوابها للجماعة منذ البداية تحت وهم مغلوط مؤداه أن هذا هو الطريق الأقصر لاستعادة الاستقرار فى العالمين العربى والإسلامى!

وما زالت العاصمة البريطانية تضم المدرسة الدبلوماسية الأولى فى عالمنا المعاصر، فالبريطانيون هم صناع الماضى ورواد الحاضر وطليعة المستقبل، سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا إلا أنهم يظلون أقدر الناس على فهم سيكولوجية شعوب المستعمرات والظروف التى مرت بها والتحديات التى واجهتها.. سلامًا لمدينة أحببتها رغم اختلافى مع سياساتها، واعتراضى على بعض توجهاتها، إلا أنها تبقى شعاع ضوء ينير الطريق أمام أوروبا فى كل اتجاه!

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية