تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
أمريكا إلى أين؟
كيف يمكن تفسير حالة الانقسام السياسى التى تشهدها الولايات المتحدة. أحد تفسيرات هذا الانقسام طرحها المؤرخ الامريكى جارى جيرستل فى كتابه «صعود وسقوط النظام النيوليبرالي». الكتاب صدر عام 2022، ولكن العديد من الأمريكيين يعيدون قراءته اليوم فى ضوء ما تشهده الساحة الأمريكية من تطورات. والمؤلف ظهر اخيرا كضيف فى العديد من وسائل الإعلام لتوضيح الجذور العميقة لحالة الانقسام التى يشهدها المجتمع الامريكى، ومحاولة الإجابة عن سؤال حول طبيعة المستقبل فى ظل هذا الاستقطاب.
المؤلف يستخدم مفهوم «النظام السياسى» لتفسير هذه الظاهرة، ويقصد به الهياكل التى تقوم على الإجماع السياسى والتى تمتد على مدى عقود من الزمن، وليس على دورات انتخابية مدتها سنتان او أربع، فالنظام السياسى هو شيء يستمر إلى ما بعد انتخابات معينة، ويشير إلى قدرة حزب سياسى واحد على ترتيب مجموعة من الأفكار والسياسات والمرشحين والأفراد الذين يهيمنون على السياسة لفترات طويلة من الزمن. وتصبح هيمنتهم قوية إلى الحد الذى يجعل الحزب المعارض يشعر بأنه مجبرـ إذا كان لا يزال راغبا فى البقاء كلاعب حقيقى فى السياسة الأمريكية ـ على الرضوخ والانضمام إلى منصة الحزب السياسى الآخر.
والنظام السياسى لابد أن يتمتع بالقدرة على تشكيل الأفكار الأساسية للحياة السياسية. ولابد أن يكون قادرا على القيام بذلك، ليس فقط لصالح أشد أنصار حزب سياسى حماسة، بل وأيضا لصالح الناس الذين ينتمون إلى مختلف الأطياف السياسية. وعادة ما تستمر هذه الدورة لمدة ثلاثين أو أربعين عاما. وتشارك الأزمة الاقتصادية فى ظهور نظام جديد وتفكك النظام القديم. ويرى الكاتب أن هناك نظامين شهدتهما الولايات المتحدة عبر القرن العشرين: نظام الصفقة الجديدة، الذى امتد من ثلاثينيات القرن العشرين إلى سبعينياته، والنظام النيوليبرالى، الذى امتد من السبعينيات إلى الأزمة المالية التى بدأت عام 2008.
وان البلاد تعيش الآن فى حالة من غياب مثل هذا النظام. وبالرغم من وجود بعض ملامح لنظام جديد يتشكل، فإنه لم يكتمل بعد. وبالنسبة لنظام الصفقة الجديدة، فهو الذى تبلور فى الولايات المتحدة بعد الكساد الكبير فى الثلاثينيات، ودعمته الحرب العالمية الثانية والاقتصاديات التى تطلبتها، وكذلك ظهور الاتحاد السوفيتى كعدو للولايات المتحدة وأجواء الحرب الباردة. وقام هذا النظام على فكرة ان الرأسمالية لو تركت لآلياتها الخاصة فسوف تقوم بتدمير نفسها، ومن ثم ضرورة تدخل الدولة لتوجيه الرأسمالية لتحقيق اهداف الدولة والمجتمع. وفى هذا الإطار تم تبنى مجموعة من السياسات التى أدت إلى توسيع دور الحكومة الفيدرالية فى الاقتصاد بشكل كبير سواء فى صورة مشاريع أو قواعد تنظيمية.
الصفقة الجديدة بدأت على يد الرئيس فرانكلين روزفلت، الذى ينتمى للحزب الديمقراطى، وأصبحت الفكرة المهيمنة التى توافق عليها المجتمع الامريكى، وعندما وصل الرئيس دوايت أيزنهاور (من الحزب الجمهورى) إلى البيت الأبيض، استمر فى نفس النهج. ولكن مرحلة الستينيات شهدت تصاعد الانتقادات لنظام الصفقة الجديدة، وظهرت حركة من الليبراليين ضد الحكومة الكبيرة لأسباب تتعلق بالتعبير عن الذات، ولأسباب تتعلق بالحقوق المدنية، ولأسباب تتعلق بحرب فيتنام. وتم اتهام الدولة الفيدرالية التى اتسع دورها فى إطار الصفقة الجديدة بالفساد، وأنها تخنق الإبداع البشري. ومن ثم ظهرت الليبرالية الجديدة، التى اعتقد انصارها أن أفضل برنامج اقتصادى هو الذى يحرر الرأسمالية من قيودها، والذى يُخرج الحكومة من الحياة الاقتصادية. والدور الوحيد للحكومة هو ضمان قدرة الأسواق على العمل بحرية وقوة. لذا فهى تسير عكس الصفقة الجديدة. و إذا كان المبدأ الأساسى للصفقة الجديدة هو ان الرأسمالية لو تركت لآلياتها الخاصة ستدمر نفسها. فان المبدأ الأساسى لليبرالية الجديدة هو إزالة القيود عن الرأسمالية، وان ذلك سيجعل العالم أكثر إنتاجية وحرية.
الليبرالية الجديدة بدأ تطبيقها فى شكل واضح فى عهد الرئيس الجمهورى رونالد ريجان، ولكنها استمرت بعد ذلك فى ظل الرؤساء من الحزب الديمقراطى، وذكر بيل كلينتون «لقد انتهى عصر الحكومة الكبيرة».
ولكن الأزمة المالية التى شهدتها البلاد عامى 2008 و2009 أوضحت أن الكثير من حرية السوق التى أطلقتها الليبرالية الجديدة أدت إلى ممارسات مصرفية ومالية فاسدة دفعت العالم إلى حافة الهاوية المالية. كما جلبت شعورًا بمدى عدم المساواة العميقة فى المجتمع. وادّت حركة العولمة وماصاحبها من تدفق لحركة البشر للولايات المتحدة إلى تزايد حالة الاغتراب لدى المواطن الامريكى، ورافق ذلك الكارثة الكبرى فى السياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بحرب العراق. وأسهم كل ذلك فى انتكاسة الليبرالية الجديدة. وأصبحت الأفكار المعادية لها محل اتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين مثل فرض سياسات حمائية على التجارة الدولية، والتخلى عن مفهوم العولمة وغيرها من السياسات.
ويختتم المؤلف كتابه بالفقرة التالية: إن نظام الصفقة الجديدة أقنع غالبية كبيرة من الأمريكيين بأن الدولة المركزية القوية يمكنها إدارة اقتصاد رأسمالى ديناميكى ويصب فى المصلحة العامة. وأقنع النظام النيوليبرالى أغلبية كبيرة من الأمريكيين بأن الأسواق الحرة من شأنها أن تحرر الرأسمالية من قيود الدولة غير الضرورية وأن تنشر الرخاء والحرية الشخصية بين صفوف الأمريكيين ثم فى مختلف أنحاء العالم. ولكن أيا من هذين المقترحين لا يحظى اليوم بالدعم أو السلطة التى كان يتمتع بها ذات يوم. فقد ساد الاضطراب السياسى والخلل الوظيفى. وما يأتى بعد ذلك هو السؤال الأكثر أهمية الذى تواجهه الولايات المتحدة والعالم الآن.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية