تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. محمد فايز فرحات > ملاحظات حول استراتيجية الأمن القومى الأمريكى

ملاحظات حول استراتيجية الأمن القومى الأمريكى

صدرت منذ أيام قليلة النسخة الجديدة من وثيقة استراتيجية الأمن القومي. بشكل عام، تكتسب هذه الوثيقة أهميتها بالنظر إلى كونها إحدى المداخل المهمة لفهم الخطوط العامة للأهداف الأمريكية فى مرحلة ما، والأدوات الرئيسية للوصول إلى هذه الأهداف، وطبيعة العلاقات الأمريكية المخططة مع النظام العالمى والقوى الدولية، والتصنيف الأمريكى للفاعلين الدوليين الرئيسيين بين «حلفاء»، أو «منافسين» أو «أعداء»، وطبيعة العلاقات المرتقبة مع كل فئة من هذه الفئات، والمفاهيم الأساسية الحاكمة للسياسة الخارجية الأمريكية.

وتكتسب النسخة الأخيرة من الاستراتيجية أهميتها الخاصة بالنظر إلى اعتبارات عدة، أهمها طبيعة الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، الذى يحمل سمات عدة تميزه عن غيره من القيادات الأمريكية، خاصة طابعه البرجماتى وإيمانه بإدارة الأزمات الإقليمية والدولية والعلاقات الأمريكية مع العالم الخارجى بمنطق وقواعد «الصفقة»،

وهى سمة ترتبط بخلفيته المهنية كرجل أعمال، واتجاهه إلى وضع قواعد جديدة فى علاقة الولايات المتحدة مع الفاعلين الدوليين بما فى ذلك الحلفاء التاريخيون. أضف إلى ذلك توقيت صدور الوثيقة؛ ففضلا عن كونها النسخة الأولى فى عهد الرئيس دونالد ترامب، فإنها تأتى قبل مرور العام الأول من فترة إدارته الحالية.

بالإضافة إلى هذه الملاحظات..

فإن قراءة الوثيقة تشير إلى عدد من الملاحظات الأخرى التى لا تقل أهمية. أول تلك الملاحظات هو تصدير الوثيقة لحالة وجود «تهديد» كبير للولايات المتحدة، واستخدمت الوثيقة هنا مفردات لا تتناسب مع كون الولايات المتحدة هى القوة العسكرية الأولى فى العالم ومازالت القوة المهيمنة على النظام العالمى حتى اللحظة الراهنة.
تقول الوثيقة فى هذا السياق -على لسان الرئيس الأمريكي- «منذ أول يوم لى فى المنصب، استعدنا الحدود السيادية للولايات المتحدة ونشرنا الجيش الأمريكى لوقف غزو بلادنا». الحديث عن وقف الغزو لا يتناسب مع حالة الولايات المتحدة، ولا يتناسب كذلك مع طبيعة التهديد المقصود هنا والذى يُفهم من سياق الحديث أنه ينصرف إلى الهجرة غير الشرعية من بعض دول الجوار الأمريكي.

تصدير هذه الحالة ربما يقصد منه تبرير سياسات الإدارة الحالية إزاء الهجرة غير الشرعية، لكنها تعكس أيضا حالة من القلق الأمريكي.

الملاحظة الثانية هى وجود اتجاه إلى مراجعة ما يمكن وصفه بتكاليف الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي؛ ففى الوقت الذى تحرص فيه إدارة ترامب على الحفاظ على حالة الهيمنة تلك، فإنها لا تريد تحمل أعباء وتكاليف هذه الهيمنة أو على الأقل مراجعة هذه التكاليف،

بدءا من تكاليف حماية الأمن العالمى وحماية أمن الحلفاء، وتكاليف حماية العولمة الاقتصادية وحرية التجارة العالمية، انطلاقا من قناعة لدى الإدارة بأن العولمة وحرية التجارة كانت فى مصلحة الاقتصادات المنافسة والصاعدة، وعلى رأسها الصين، بينما تحمل الاقتصاد الأمريكى تكلفتها الأكبر.

تقول الوثيقة فى هذا السياق «لقد أخطأت نخبتنا بشدة فى تقدير استعداد أمريكا لتحمل أعباء عالمية إلى الأبد لم ير الشعب الأمريكى أى صلة لها بالمصلحة الوطنية... لقد سمحوا للحلفاء والشركاء بإلقاء تكلفة دفاعهم على الشعب الأمريكي، وفى بعض الأحيان تم جرنا إلى صراعات وخلافات محورية لمصالحهم, ولكنها هامشية أو غير ذات صلة بمصالحنا».

هذا التوجه كان قد بدأه ترامب فى إدارته السابقة (يناير 2017 - يناير 2021)، وتستكمله إدارته الحالية. لقد نجحت إدارة ترامب، فى هذا السياق، فى دفع حلفاء تاريخيين إلى زيادة حجم إنفاقهم العسكري، كما حدث مع الناتو الذى قرر رفع الإنفاق الدفاعى للأعضاء من 2% إلى 5% من الناتج المحلى الإجمالي. الأمر نفسه بالنسبة لحلفاء آخرين مثل اليابان. أضف إلى ذلك، مراجعة العديد من الحلفاء لعقائدهم الدفاعية، بشكل يخدم هدفا أمريكيا مزدوجا؛ هو تخفيض مساهمة الولايات المتحدة فى حماية أمن الحلفاء، وزيادة حجم مساهمات الحلفاء فى حماية المصالح المشتركة فى الأقاليم المهمة، خاصة فى أوروبا وآسيا.

لكن هذا التوجه الأمريكى قد يرتب مشكلات على مستوى هدف الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي؛ إذ لا يمكن توقع قبول القوى الدولية باستمرار هذه الهيمنة - والتى استفادت منها دول عدة بالفعل خاصة خلال مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة- فى ظل تراجع حجم الالتزامات الأمنية والاقتصادية والمالية الأمريكية، ليس فقط فى مواجهة المنافسين لكن فى مواجهة الحلفاء أنفسهم. أحد عوامل استقرار الهيمنة الأمريكية خلال العقود التالية على تفكك الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة هو اضطلاع الولايات المتحدة بمسئوليات حماية الأمن العالمى والعولمة وحرية التجارة.

يرتبط بذلك ما أسست له الاستراتيجية من جدل حول مراجعة الإدارة الأمريكية للأوزان النسبية للأقاليم الرئيسية.

فقد أولت الاستراتيجية اهتماما كبيرا بنصف الكرة الغربية، وأشارت فى هذا السياق إلى صيغة جديدة لمبدأ مونرو.

الأهم هنا أن الاستراتيجية وجهت انتقادات كثيرة للحلفاء الأوروبيين؛ خاصة تراجع حصة أوروبا من الناتج العالمى من 25% فى عام 1990 إلى حوالى 14% حاليا، وطغيان المؤسسات الأوروبية العابرة للقومية ممثلة فى الاتحاد الأوروبى على حساب سيادة الدولة، الأمر الذى يهدد بتآكل الحضارة الأوروبية حسبما ذهبت إليه الوثيقة،

ويشير إلى وجود إدراك سلبى لدى الإدارة الأمريكية حول مستقبل القارة الأوروبية وحدود الاعتماد على الحليف الأوروبى خلال المرحلة المقبلة؛ إذ ذهبت الوثيقة إلى أنه ينبغى أن يكون هدف الولايات المتحدة «مساعدة أوروبا على تصحيح مسارها الحالي».

ملاحظات وتساؤلات عدة تثيرها النسخة الأخيرة من استراتيجية الأمن القومى الأمريكي، لكنها تظل فى التحليل الأخير إما كاشفة وموثقة للعديد من التحولات والمراجعات التى بدأتها إدارة ترامب الأولى، وتستكملها الإدارة الحالية، أو مُؤَسِسة للعديد من التحولات والمراجعات الجديدة. وسيظل السؤال حول مدى تأثير هذه المراجعات على الأهداف الأمريكية الكبرى، وطبيعة علاقاتها مع المنافسين، بل وعلى الحلفاء أيضا، فى مختلف الأقاليم.

هناك اتجاه إلى مراجعة ما يمكن وصفه بتكاليف الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي؛ ففى الوقت الذى تحرص فيه إدارة ترامب على الحفاظ على حالة الهيمنة تلك، فإنها لا تريد تحمل أعباء وتكاليف هذه الهيمنة

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية