تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
مصر ركيزة الإقليم
الدول المحورية، مثل مصر، استندت فى وجودها وأدوارها ليس فقط من شروط إنشاء الدولة (الشعب والأرض والسيادة)، لكنها استمدت هذا الوجود والحضور من مصادر أخرى لا تقل أهمية هى التاريخ والجغرافيا السياسية.
هذه الشروط لم تتوفر لكل دول العالم، عدد قليل من هذه الدول هى التى ساهمت فى تشكيل حقب من تاريخ الإنسانية وحضاراتها، وأعطت للجغرافيا دلالات ومعانى وأدوارا سياسية وإستراتيجية.
بالتأكيد، الأمر لا يتسع هنا لاستعراض علاقة مصر بالحضارات الإنسانية، والدور الذى لعبته فى تشكيل المساهمة الأهم فى تشكيل وبناء هذه الحضارات، وهى مسألة سجلها وأرّخ لها أساتذة وعلماء التاريخ والآثار والحضارات، حتى أضحى هناك فرع معرفي متخصص لدراسة كل ما يتعلَّق بمصر القديمة من تاريخ ولغة، وأدب وحضارة ودين وفن العمارة والفنون، بجانب الحضارة الفرعونية القديمة، تحت اسم علم «المصريات» Egyptology. الأمر نفسه فيما يتعلق بالموقع الجغرافي، الذى جعل من مصر مطمعا للعديد من القوى الاستعمارية خلال مراحل تاريخيّة مختلفة، لكن هذا الموقع وهبها فى الوقت نفسه مكانة جيو ــ سياسية وجيو ــ ثقافية مهمة، فاستطاعت أن تطور لنفسها دوائر حركة عديدة، واستطاعت بعبقريتها أن تجمع بين هذه الدوائر دونما تناقض، بل وتجعل منها مصادر لهويات متناغمة، فهى بحكم الجغرافيا واللغة قوة عربية رئيسة، وبحكم الدين جزء من العالم الإسلامي، وبحكم الجغرافيا أيضا هى قوة إفريقية وجنوب متوسطية.
مرة أخرى، المقام لا يتسع هنا للاستطراد فى المكانة التاريخية والجيو ــ سياسية والجيو ــ ثقافية للدولة المصرية، لكن هذه مقدمة ضرورية وجب الإشارة إليها. مكانة مصر لم ترتبط بالخصوصيات السابقة، لكنها ارتبطت بقدرة مصر على صياغة وطرح النماذج والخبرات والأفكار الكبرى عبر التاريخ. بعض هذه الخبرات كانت شروطا ضرورية لاستقرار الإقليم ومحيطها الجغرافي.
قديما، وعلى سبيل المثال، قدمت مصر الفرعونيّة فكرة التوحيد، التى كانت عاملا رئيسا فى بناء الدولة الموحدة، وإطلاق إسهامها الحضاري. وفى العصر الحديث قدمت مصر العديد من الخبرات المهمة. أبرز تلك الخبرات هو نموذج السلام المصرى مع إسرائيل، بعد سلسلة من الحروب العربية ــ الإسرائيلية، والمصرية ــ الإسرائيلية المتتالية، ارتبطت بموجات العدوان والاحتلال الإسرائيلى لأراض عربية وفلسطينية. هذا السلام قام على عدد من الركائز المهمة، أبرزها تحرير كامل الأراضى المصرية المحتلة، وبناء توازن إستراتيجى مستدام، وبناء نموذج خاص فى تطبيع العلاقات بين البلدين يقوم على التمييز بين التطبيع الرسمى والتطبيع المجتمعي، من خلال منح القوى المجتمعية كامل الحق فى القبول بفكرة التطبيع من عدمه. هذا النموذج المصرى فى السلام مع الجانب الإسرائيلى عكس فلسفة مصرية سبقت ــ وقت تدشينها ــ واقع الإقليم وتياراته السياسية والفكرية السائدة آنذاك، وتحملت مصر وقيادتها السياسية أعباء وتكاليف الموجة الرافضة لهذه الفلسفة، التى اتضح لاحقا سبقها لواقع الإقليم.
نموذج السلام الذى قدمته مصر، والمستقر منذ عام 1979، مثل إحدى ركائز استقرار إقليم الشرق الأوسط، ومازالت مصر متمسكة بهذا النموذج، وبالأسس التى قام عليها. أحد شروط استدامة هذا النموذج أنه حظى أيضا بدعم الولايات المتحدة الأمريكية، التى انخرطت فى عملية بناء هذا النموذج، والتزمت عبر العقود الماضية بالدفاع عنه وضمان استدامته، الأمر الذى يشير إلى أهمية اضطلاع القوى العظمى بواحد من أهم التزاماتها ومسئولياتها الدولية وهى حماية أسس وشروط معادلات الأمن الإٍقليمي، خاصة عندما يتعلق الأمر بإقليم شديد الأهمية والحساسية مثل إقليم الشرق الأوسط. لقد دافعت مصر ــ ولاتزال ــ عن هذا النموذج، لكن حمايته واستدامته هى مسئولية مشتركة أيضا، سواء على الجانب الإسرائيلي، أو الولايات المتحدة، ليست باعتبار الأخيرة إحدى رعاة بناء هذا النموذج، لكن باعتبارها القوة العظمى المسئولة عن الأمن العالمي.
لم يقف دور مصر فى حماية أمن الإقليم عند هذا الحد، لكنها انخرطت بصدق فى مشروعات بناء نموذج سلام مماثل على مستوى الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلي، وتعاملت بمسئولية وبصدق أيضا مع تداعيات السياسات الإسرائيلية فى المنطقة، انتهاء بالعدوان الجارى على قطاع غزة. لا توجد دولة أخرى فى الإقليم قدمت مثل هذا النموذج أو هذه الخبرة.
مثال آخر للخبرات المهمة التى تجاوزت الحدود المصرية هى نجاح مصر فى التخلص من تداعيات ما عُرف بموجة الربيع العربى التى ضربت عددا من دول المنطقة، والتى ساهمت فى صعود تيارات الإسلام السياسي، والتى كان من شأن هيمنتها على الدولة المصرية تغيير هوية الدولة، وبدء موجة من صعود التيارات المماثلة فى باقى دول المنطقة، الأمر الذى كان من شأنه تغيير شكل الإقليم وهويته. نجاح مصر فى التخلص من إرث الربيع العربى بهذه السرعة، وبعد الانكشاف الفكرى والتنظيمى لهذه التيارات، لم يأت نتيجة تدخل خارجي، لكنه جاء محصلة لوعى المجتمع المصرى ومؤسساته الوطنية، التى وقفت على خطورة هذه التنظيمات خلال عامين من بدء الربيع العربي، وخلال عام واحد من حكم هؤلاء لمصر. هذه الخبرة، تعكس، بجانب أمور عدة أخرى، ما تمتلكه الأمة المصرية والدولة المصرية من قدرة على استلهام دروس التاريخ والقراءة الاستباقية لتداعيات التحولات الكبرى فى الإقليم، وهى جزء من العبقرية التاريخية والجيو-سياسية والجيو ــ ثقافية لمصر.
هذه الخبرات المصرية، وغيرها، لم تكن لتتحقق لولا توافر عدد من الشروط الرئيسية التى ميزت الدولة المصرية عن العديد من دول العالم. أبرز هذه الشروط هو تجذر واستقرار الدولة الوطنية، ووجود قيادات سياسية لديها القدرة على القراءة الدقيقة للتاريخ والتحولات الرئيسية التى تجرى فى الإقليم والعالم. أضف إلى ذلك حالة التفاعل الذكى بين ما تمتلكه الدولة المصرية من كل المقومات السابقة: التاريخ والحضارة، والموقع الاستراتيجي، والمقومات الجيو ــ سياسية، والجيو ــ ثقافية ...إلخ، على نحو وفر للدولة المصرية القدرة على الحركة الواعية والمسئولة والمتزنة، والقدرة على الحركة الاستباقية. وحتى عندما عانت مصر من مشكلات اقتصادية أو مالية فى بعض الأوقات، فإن هذه المقومات والشروط وفرت لمصر وقياداتها السياسية القدرة على التعامل مع هذه المشكلات، ووفرت لها القدرة على تحييد تأثيراتها على حركتها الخارجية.
خلاصة القول، ستظل مصر بوابة رئيسية لضمان استقرار وأمن الإقليم، وستظل هى الأكثر قدرة على تقديم الخبرات المهمة التى تتجاوز حدودها الجغرافية، انطلاقا مما تمتلكه من مقومات وشروط جيو ــ سياسية، وجيو ــ ثقافية، وبفضل قياداتها السياسية القادرة على القراءة الاستباقية لواقع الإقليم والعالم حتى وإن اختلفت معها قوى دولية وإقليمية أخرى.
..............
نموذج السلام الذى قدمته مصر، والمستقر منذ عام 1979، مثل إحدى ركائز استقرار إقليم الشرق الأوسط، ومازالت مصر متمسكة بهذا النموذج، وبالأسس التى قام عليها. أحد شروط استدامة هذا النموذج أنه حظى أيضا بدعم الولايات المتحدة الأمريكية، التى انخرطت فى عملية بناء هذا النموذج.
mfayez@ahram.org.eg
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية