تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. محمد فايز فرحات > حدود المؤامرة فى فهم ما يجرى حولنا

حدود المؤامرة فى فهم ما يجرى حولنا

رغم شيوع مصطلح «نظرية المؤامرة»، واعتماد البعض عليها لتفسير الكثير من الأحداث والتطورات، لكن المؤمنين بهذه النظرية لم يقدموا بناء نظريا متكاملا؛ فلا تمتلك النظرية، كغيرها من نظريات العلوم السياسية أو العلاقات الدولية، مقولات أو فرضيات نظرية تساعد المعنيين بدراسة ظواهر العلاقات الدولية على فهم وتفسير هذه الظواهر، أو رصد العلاقات فيما بينها أو نمط حركتها.

وطُرح فى هذا الإطار العديد من العوامل التى تفسر انتشار نمط التفكير بنظرية المؤامرة، منها الميل إلى تبرير الظواهر والأحداث وعدم تحمل المسئولية من خلال إلقائها على طرف أو أطراف أخرى، أو وجود مصلحة لدى تيار سياسى أو دينى محدد فى الترويج لمقولات دينية بعينها، أو إسباغ صبغة دينية على الظواهر والتفاعلات الدولية وفهمها خارج سياق علاقات القوة والمصلحة. ويذهب البعض أيضا إلى أن انتشار التفكير بنظرية المؤامرة يرتبط بمستوى التنمية والتحديث وبطبيعة الثقافة القائمة داخل المجتمع.

 

لكن مع وجاهة وتماسك الانتقادات الموجهة لنظرية المؤامرة والمؤمنين بها، هناك مجموعة من الاعتبارات المهمة التى ربما تجعل من الخطورة إغفال وجود المؤامرة ذاتها.

الاعتبار الأول، هو هيمنة طابع «الصفقات السرية» على العديد من التفاعلات والتحولات التى تحدث على المستوى الدولى أو الإقليمي. لقد اُنتقد أنصار نظرية المؤامرة بأنهم يفترضون أن العلاقات الدولية تجرى دائما وفق «صفقات سرية» غير معلنة، وكأن التفاعلات الدولية تجرى داخل صندوق أسود يصعب فهمه. التفاعلات الدولية بطبيعتها لا تجرى بشكل كامل فى العلن، ولا تتم بشكل شفاف، جزء من هذه التفاعلات يجرى على السطح، فى شكل الاتفاقيات والإعلانات الرسمية، واللقاءات والتصريحات.. إلخ، بينما يجرى جزء آخر منها تحت السطح. هذا هو واقع العلاقات الدولية. لكن العديد من الظواهر والتطورات الدولية الراهنة يتم التجهيز لها كاملا تحت السطح فى شكل صفقات، ولا نرى سوى نتائجها النهائية على الأرض، الأمر الذى يُكسِبْ هذه الصفقات فعلا إحدى سمات «المؤامرة»، خاصة أنها باتت تجرى بأدوات غير رسمية وغير شرعية، إلى حد توظيف التنظيمات الإرهابية والميليشيات العسكرية فى بعض الحالات، بل قد تكون هذه الأخيرة أطرافا رئيسية فى هذه الصفقات. أضف إلى ذلك التناقضات القائمة بين العديد من أطراف هذه الصفقات، الأمر الذى يفرض سقفا سياسيا وأخلاقيا على ظهور هذه الأطراف معا فى مشهد واحد على السطح، أو الكشف عن ما تم بينها من اتفاقيات.

الاعتبار الثاني، يتعلق بطبيعة المرحلة الراهنة فى العلاقات الدولية، والتى تُوصف بأنها مرحلة انتقالية يغُلب فيها الطابع الصراعى على قمة النظام. وتتسم هذه المرحلة بمحاولة القوى الدولية بناء توازنات دولية تعكس موازين القوى الجديدة، بجانب ما تشهده من إعادة فرز للانحيازات والارتباطات الدولية، من خلال بناء التحالفات والمحاور الدولية. الأمر نفسه بالنسبة للقوى الإقليمية التى تسعى إلى استغلال حالة السيولة داخل النظام الدولى لتعظيم مكاسبها باستخدام مختلف الأدوات، المشروعة وغير المشروعة، حتى لو جاء ذلك على حساب دول أخرى فى الإقليم.

الاعتبار الثالث، يتعلق بتراجع درجة التزام المجتمع الدولى بمنظومة القانون الدولى والمنظومة الأممية. لا شك فى وجود علاقة إيجابية بين درجة احترام المجتمع الدولى لهذه المنظومة من ناحية، وابتعاده عن إدارة العلاقات والمصالح الدولية بعقلية المؤامرة والصفقات السرية، من ناحية أخرى؛ فكلما ازداد التزام واحترام القوى الدولية والإقليمية لهذه المنظومة خلقت قيودا وضوابط على أهدافها وأدوات تحقيق هذه الأهداف، والعكس صحيح. العلاقات الدولية بطبيعتها هى دالة فى القوة وموازين القوة، لكن يظل القانون الدولى أحد أدوات ضبط هذه العلاقات. وعندما تتراجع الأهمية النسبية للقانون الدولى والمنظومة الأممية، وعندما تُهاجم بشكل «سافر»، فإن هذا يعنى تراجع هذا الضابط إن لم يكن غيابه تماما، الأمر الذى يفتح الباب أمام الصفقات السرية وتوظيف الأدوات غير القانونية لتحقيق هذه الأهداف.

الاعتبار الرابع، يتعلق بهيمنة الصراعات الجيوسياسية، سواء على مستوى النظام العالمي، أو على مستوى بعض الأقاليم. خطورة هذا النمط من الصراعات أنه قد لا يقف عند حد إعادة بناء خرائط النفوذ السياسى والاقتصادي، لكنه قد يشمل إعادة بناء الخرائط المادية، بما يتضمنه ذلك من تعديل الحدود السياسية القائمة، وبما يتناسب مع موازين القوى الجديدة. هذا النمط من الصراعات لا يمكن أن يتم بشكل علني، ولا يمكن أن يتم باستخدام أدوات قانونية، ولا يستبعد الاعتماد على الأدوات والفاعلين غير الشرعيين، الأمر الذى يُكسب هذه الصراعات طابع «المؤامرة». لكن الأهم أيضا أن الوصول إلى هذه الأهداف قد يتطلب شروطا إضافية، مثل العمل على هدم الجيوش النظامية القائمة كشرط ضرورى لإفساح المجال أمام إعادة رسم الخرائط القائمة، أو إدخال مجتمع ما فى مرحلة من الحرب الأهلية كمرحلة وسيطة قبل الوصول إلى الهدف النهائي.

الاعتبارات الأربعة السابقة، لا تعنى بحال من الأحوال الدعوة للتفكير بنظرية المؤامرة فى فهم ما يحدث حولنا من تفاعلات وتحولات، سواء داخل الإقليم أو على مستوى النظام الدولي، لكنها تعنى استنتاجات ثلاثة مهمة.

الأول، أن المرحلة الراهنة فى تطور النظام العالمى وانعكاساته على مستوى الأقاليم المختلفة، بما فى ذلك إقليم الشرق الأوسط، هى مرحلة أكثر مواءمة لعقد المؤامرات والصفقات السرية، كجزء من استغلال حالة السيولة الدولية، الأمر الذى يستتبع ضرورة الالتفات لهذه المخططات، وعدم الارتكان للتفاعلات الظاهرة التى تجرى على السطح.
الاستنتاج الثاني، أننا يجب أن نميز بوضوح بين وجود المؤامرة فى حد ذاتها، باعتبارها إحدى ظواهر العلاقات الدولية التى لا يجب إنكارها، وسيادة التفكير بنظرية المؤامرة. ويعنى ذلك أنه بينما قد لا يكون من المفيد فهم التفاعلات والظواهر الدولية دائما وفقا لنظرية المؤامرة، لكن يمكن فى الوقت نفسه إخضاع المؤامرة كحدث أو كفعل للتحليل العلمى بواسطة نظريات العلوم السياسية المستقرة والمتعارف عليها داخل الجماعة العلمية.
الاستنتاج الثالث، أن هناك تطورا كبيرا فى أدوات تنفيذ هذه المؤامرات؛ إذ لم تعد تعتمد على الأدوات التقليدية الصلبة، لكنها تشهد تطورات مهمة فى اتجاه التأثير فى توجهات الرأى العام، والتأثير فى المزاج العام للشعوب، وترتيبها لأولوياتها.. إلخ، الأمر الذى يستتبعه انتباه ضرورى موازى من جانب النخب والرأى العام والمواطن.

العديد من الظواهر والتطورات الدولية الراهنة يتم التجهيز لها كاملا تحت السطح فى شكل صفقات، ولا نرى سوى نتائجها النهائية على الأرض، الأمر الذى يُكسِبْ هذه الصفقات فعلا إحدى سمات «المؤامرة»، خاصة أنها باتت تجرى بأدوات غير رسمية وغير شرعية.

mfayez@ahram.org.eg

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية