تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

أى سلام ديمقراطى؟

تقوم نظريات العلاقات الدولية بعدد من الوظائف المهمة؛ أولاها تسهيل فهم ما يحدث حولنا فى العالم من تفاعلات وتحولات وظواهر، سواء فى جوانبها الإيجابية؛ مثل بناء الشراكات، وتحرير التجارة والتكامل الاقتصادى، وغيرها، أو جوانبها السلبية؛ بدءا من الأزمات السياسية العابرة، وسباقات التسلح، وانتهاء بالحروب. كما تمثل، من ناحية ثانية، أداة تعليمية مهمة داخل قاعات التدريس لبناء أجيال متخصصة تعتمد على التفكير العلمى فى تصنيف وتبويب وفهم التفاعلات والظواهر الدولية، بعيدا عن أنماط التفكير السطحى والاختزالى أو الفهم المبنى على التفكير بالمؤامرة.

لكن بالإضافة إلى هاتين الوظيفتين المهمتين، هناك وظيفة ثالثة لا تقل أهمية وهى الوظيفة الأخلاقية، المتمثلة فى العمل على تجنيب المجتمعات الإنسانية ــ على اختلاف أنماطها وأنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية...إلخ ــ الدخول فى الحروب. بعض هذه النظريات انشغلت بتقديم تفسيرات للحرب بعد وقوعها، ومن ثم قدمت إجابات ــ ضمنية أو صريحة ــ لكيفية تجنب الحرب أو التنبؤ بوقوعها حال تحقق شروطها حسب مقولاتها النظرية.

بعض النظريات الأخرى مارست هذه الوظيفة الأخلاقية من خلال طرح «مسارات إيجابية» بديلة للحروب، مثل التكامل الاقتصادى والسياسى أو الوظيفى...إلخ.

لا يمكن بالطبع إنكار أهمية الوظائف الثلاث السابقة لنظريات العلاقات الدولية، لكن هذا لا ينفى أن العديد من هذه النظريات إما أنها باتت تواجه مأزقا منهجيا ينال من قدرتها على تفسير ما يحدث حولنا من أزمات وحروب، أو أنها باتت تواجه مأزقا أخلاقيا كبيرا.

يأتى فى مقدمة النظريات التى باتت تعانى من هذا المأزق الأخلاقى والمنهجى نظرية «السلام الديمقراطي» Democratic Peace Theory، التى تعتمد فى تفسير السلوك الخارجى للدولة على طبيعة النظام السياسى الداخلى. وتقوم النظرية على افتراض رئيسى مؤاده أن الديمقراطيات لا تتحارب مع بعضها البعض.

وتطرح تفسيرين رئيسيين لذلك؛ الأول هو التفسير الهيكلى أو المؤسسى، ويذهب إلى أن القيود والضوابط المؤسسية، المتمثلة فى تعقيدات وآليات عملية صنع القرار داخل النظم الديمقراطية، فضلا عن تجذر قواعد وقيم الشفافية والمساءلة، ودور المنظمات غير الحكومية والدفاعية، والرأى العام، والصحافة، كلها عوامل تجعل قرار الحرب قرارا معقدا بطبيعته، الأمر الذى يدفع بهذه الأنظمة إلى تفضيل بديل السلام وتجنب الدخول فى الحروب، حيث يُعد قرار الحرب من أعقد القرارات داخل هذه الأنظمة.

التفسير الثانى هو التفسير «القيمى» أو «المعيارى»، ويذهب إلى أن قيم الديمقراطية تميل بطبيعتها إلى تفضيل خيارات التفاوض والتسوية السلمية للنزاعات والصراعات. وتكون النتيجة النهائية لهذين العاملين هى تراجع احتمالات الحرب.

ويرتبط بذلك أن القيادات السياسية داخل النظم الديمقراطية تجد صعوبة كبيرة فى تبرير الهزيمة فى الحرب وتبرير تكلفتها المادية والبشرية، سواء أمام المؤسسات التشريعية أو أمام الرأى العام، الأمر الذى قد يكلفها الخروج من السلطة فى أقرب انتخابات بعد الحرب، وذلك على العكس من النظم غير الديمقراطية؛ حيث لا تجد القيادات السياسية مثل هذه الصعوبات، نتيجة ما تتسم به عملية صنع القرار الخاص بالحرب ــ حسب مقولات هذه النظرية ــ من سرية وسرعة وعدم الشفافية، فضلا عن ضعف المساءلة اللاحقة.

التفسير يبدو منطقيا عندما تتعامل النظرية مع احتمالات الحرب بين الأنظمة الديمقراطية وبعضها البعض، لكنها تقع فى مأزق أخلاقى كبير عندما تفسر أو تبرر لجوء الأنظمة «الديمقراطية» إلى شن الحرب ضد ما تصفه بالأنظمة «غير الديمقراطية»، حيث تأتى الحرب هنا كعمل استباقى مُبَرر ضد الدولة غير الديمقراطية بسبب حالة الشك وعدم الثقة فى الأخيرة أو لإجهاض عدوان متوقع من جانبها، ومن ثم يصبح قرار الحرب هنا مُتَفَهَما من قبل الرأى العام والمؤسسات السياسية داخل الدولة الديمقراطية!!

هكذا، تنطلق النظرية من خطأ أخلاقى وقيمى أساسى يتعلق باختزال تفسير السلوك الخارجى للدولة اعتمادا على متغير وحيد هو طبيعة النظام السياسى الداخلي، وهو اختزال مُخل لسببين مهمين، أولهما أن هناك متغيرات عدة، داخلية وخارجية، تحكم السلوك الخارجى لأى دولة، منها النظام الثقافي، وطبيعة النخبة السياسية، وطبيعة النظام الدولي...إلخ، حيث تتفاعل هذه المتغيرات بشكل مركب فى تحديد السلوك الخارجى للدولة. ثانيهما، أن مفهوم الديمقراطية نفسه هو مفهوم نسبى، أو يجب التعامل معه كذلك؛ فقد أثبتت الخبرة الدولية أن الديمقراطية كنظام وفلسفة لا يمكن قصرها على النموذج أو الشكل أو الآليات الغربية؛ فقد قدمت أنظمة ثقافية أخرى تجاربها أو طبعاتها الخاصة للديمقراطية، فى إطار متوافق عليه بين الدولة والمجتمع وانطلاقا من النظام الثقافى والاجتماعى الوطنى السائد.

لقد أسس هذا الافتراض الخطأ المتمثل فى ربط سلوك الحرب بطبيعة النظام السياسى الداخلى لسياسات دولية خطيرة، كان أبرزها تبرير التدخل العسكرى الخارجى للقوى الدولية (الديمقراطية) لإصلاح الدول الهشة أو الفاشلة، أو لنشر الديمقراطية، من خلال إزاحة الأنظمة السياسية «غير الديمقراطية» ــ حسب المعايير الغربية ــ وبناء أنظمة بديلة «ديمقراطية» ــ حسب المعايير الغربية أيضا.

فقد أثبتت الخبرة العملية ليس فقط خطورة مثل هذه السياسات بالنسبة للأمن العالمي، وعدم فعاليتها بل وفشلها، وكشفت كذلك ما ارتبطت بهذه السياسات من ممارسات لاأخلاقية، وما انتهت إليه من بناء واقع أكثر تعقيدا وأكثر هشاشة مما كان عليه الوضع قبل التدخل العسكرى؛ الأمر الذى يعنى فى التحليل الأخير انطلاق نظرية السلام الديمقراطى تلك من السعى إلى تنميط العالم وفق ثقافة واحدة، وأنظمة سياسية محددة.

وعمق من المأزق الأخلاقى لنظرية السلام الديمقراطى المأزق الأخلاقى المماثل الذى باتت تعانى منه الديمقراطيات الكبيرة فى العالم، ومدى قدرتها على الفرز السياسى وانتخاب القيادات السياسية الأكثر جدارة وكفاءة؛ وهو عطب يرتبط بالعديد من التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والجيلية داخل المجتمعات الغربية.

هذا المأزق يؤثر بلا شك على عملية صنع القرار داخل هذه الأنظمة، ومن ثم مدى الثقة فى هذه العملية وآليات عملها ومخرجاتها النهائية، ومنها بالتأكيد قرارات الحرب.

مازالت السياسات الدولية الراهنة تشير إلى انطلاق الديمقراطيات الكبرى، وحلفائها ووكلائها فى بعض الأقاليم، من كل هذه الافتراضات الخطأ، وهى سياسات لن تفلح فى تحقيق الأمن العالمى، بل ستعمق المعضلة الأمنية على المستويين الدولى والإقليمى.

يأتى فى مقدمة النظريات التى باتت تعانى من هذا المأزق الأخلاقى والمنهجى نظرية «السلام الديمقراطى» Democratic Peace Theory، التى تعتمد فى تفسير السلوك الخارجى للدولة على طبيعة النظام السياسى الداخلى.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية