تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

يوسا.. المدينة والكلاب!

صرخت زوجته فى وجهه: «ماريو.. أنت لا تصلح لأى شيء إلا للكتابة»، فأطاع كلامها لكن بعد فوات الأوان، إنه الأديب البيروفى الإسبانى ماريو فارجاس يوسا الحائز على نوبل عام2010، الذى رحل الأسبوع الماضي؛ «توفى فى ليما محاطا بعائلته وفى سلام»، بحسب بيان أسرته.

 

«يوسا» كاتب وصحفى وأستاذ جامعى وسياسي، درس الأدب والقانون، اشتغل مصححا، ثم محررا بإحدى الصحف، ترشح للرئاسة فى بيرو وأخفق، أدرك أن الأديب والسياسى يستخدمان اللغة نفسها بأسلوب مختلف، رأى أن «الشعارات الكاذبة» أكثر فعالية من الأفكار فى دنيا السياسة. لكنه نجح نجاحا باهرا فى الإبداع الروائي؛ ترجمت رواياته إلى ثلاثين لغة، تأثر عميقا بفلوبير، فى رائعته «مدام بوفاري»، قال: «إن لغة فلوبير تُحيل كل ما تُلامِسه إلى جليد؛ تُحَجِّره. عالم هَبَّت عليه عاصفة ثلجية؛ أخمدت فيه شُعلة الحياة وتركت ساكنيه أصناما بيضاء، لا أتعاطفُ معها، بل أكتفى بتأملها، مبهورا ببريقها المرمري.. هنا عرفتُ، أننى أريد أن أكتب هكذا، أن أقلّد فلوبير الذى رأيتُ فى أسلوبه، نقمة على الحياة ورغبة فى تحنيطها داخل الجُمَل. وأيقنتُ أننى أمتلك دافعا للكتابة يتخطى الحلم بالشهرة والمجد، الهروب من الحياة، تجنُّب عيشها، تجميد المشاعر التى تتولد عنها داخل صقيع الكلمات».

تيمتان أساسيتان، فى روايات يوسا، «العسف السياسي» و«العسف الجسدي»؛ كافح ضد الديكتاتورية، خاصة ديكتاتورية مانويل أودريا فى بيرو، فى روايته الأولى «المدينة والكلاب»، باستخدام «الواقعية السحرية»، واستحضر فى «حفلة التيس» الأيام الأخيرة لديكتاتور الدومينيكان تروخيُّو، أزاح الستار عن جحيم الطغيان وتأثيراته الرهيبة؛كذلك رواية «محادثات فى الكاتدرائية». ولأنه متمرد إبداعيا ذهب، فى «امتداح الخالة» و«شيطنات الطفلة الخبيثة»،إلى مناطق محرّمة قد تذهل القارئ أمام مكاشفات الجسد وشهواته، نظر إلى «الغريزة»، بصفتها جملة ثقافية؛تزاوج الكتابة بين اللغة والأطعمة والملابس والشخصيات، والفن يجنح للإثارة والتجريب. استعرض فى «من قتل بالمينو موليرو؟»عمق الفساد والعنف الطبقي،

وتساءل في«الفردوس على الناصية الأخري»: أين يقع فردوس الإنسان فى داخله، أم فى العالم من حوله؟!.

وفى «حلم السلتي» سعى يوسا لتعرية استغلال الإنسان للإنسان فى الكونجو، التى كانت ملكية خاصة لملك بلجيكا ليوبولد الثاني، وأمازونيا فى بيرو التى كانت نهبا للاستغلال البريطاني، فضح الظلم الاجتماعى والكراهية، وفظاعات الاستعمار الأوروبى بإفريقيا وأمريكا اللاتينية وخطورته على الأوطان.

أما «حرب نهاية العالم»فهى رواية مزلزلة أهدته جائزة نوبل؛ نصّ تاريخى يتأرجح بين الصراعات الدامية وتصدير الأمل الرائق، متن إبداعى ثقيل، «إلياذة» تخص كل البشر.

أثبت يوسا أن الأدب سلاح ضد الطغاة؛ لذلك يضعون رقابة مشددة على الإبداع، فضح الديكتاتوريات بسرد بلاغى يتجاوز الأيديولوجيا، يصوغ الروح الوطنية بأصالة وشاعرية، ويرسى فضاء روائيا كونيا، لم يتوان يوسا فى فضح احتقار الديمقراطية وحقوق الإنسان، فى أمريكا اللاتينية وغيرها، رسم خرائطَ هياكل السُّلطة وصورالمقاومة الفردية والثورة والفشل، وفقا لبيان الأكاديمية السويدية فى بيان منحه «نوبل».

قدم تحليلا نفسيا دقيقا للسلطة المطلقة وقدرتها على تشويه القيم الأخلاقية والجمالية، فى نفوس الشعب،وأضاف: «نحن فى أمريكا اللاتينية حالمون بطبيعتنا، نواجه صعوبة فى التمييز بين الواقع والخيال. لهذا السبب لدينا موسيقيون وشعراء ورسامون وكتاب بارعون، وكثير من القادة السيئين».

تبنّى يوسا مواقف تحررية، قبل أن يغرق فى أوحال اليمين النيوليبرالى المتطرف وتأييد الحركات الفاشية،تحول من الماركسية إلى النيوليبرالية، كان مرشحا لليمين فى الانتخابات الرئاسية البيروفية عام 1990 لكنه هُزم على يد اليمينى المتطرف ألبرتو فوجيموري. وتبنَّى مواقف المحافظين الجدد تجاه غزو العراق عام 2003. وفى 2016، ظهر اسمه فى «وثائق بنما»، مستفيدا من التهرب الضريبي، ثم ظهر فى «وثائق باندورا» عام 2021، ثم دعّم مرشحى اليمين للرئاسة فى بيرو وتشيلى والبرازيل.

ماريو فارجاس يوسا سياسى محدود قبيح، وروائى عالمى عظيم، قال عن مسيرته، خلال تسلمه «نوبل»: «لا شيء كان أسهل من كتابة القصص، حين تصبح كلمات، كانت المشاريع تذوى على الورقة، بينما تتمدد الأفكار والصور. كيف السبيل إلى إحيائها؟ لسعادتي، كان أساتذتى موجودين هنا كى أحتذى مثالهم. علمنى فلوبير بأن الموهبة نظام لازب وصبر طويل. علمنى فوكنر بأن الشكل –الكتابة والبنية – هو الذى يحيل الموضوع كبيرا أو فقيرا. بينما مارتوريل وثربانتس وديكنز وبلزاك وتولستوى وكونراد وتوماس مان علمونى بأن العدد والطموح هما أيضا مهمان فى رواية بقدر المهارة الأسلوبية والاستراتيجية الحكائية. علمنى سارتر بأن الكلمات هى أفعال، وبأن على الرواية أو المسرحية أو البحث أن تلتزم بالراهن وبالخيار الحسن، إذ يمكن لها أن تغير مجرى التاريخ. علمنى كامو وأورويل، بأن أدبا عديم الأخلاق هو أدب غير إنسانى، بينما وجدت عند مالرو، بأن ثمة مكانا للبطولة والشعر الملحمي... من الكهف إلى ناطحات السحاب، من الهراوة إلى أسلحة التدمير الشامل، من حياة القبيلة إلى عصر العولمة، ضاعف الأدب التجارب الإنسانية؛ مانعا بذلك أن يسقط الرجال والنساء تحت وطأة الخمول والانكفاء على الذات والاستسلام.

بفضل الأدب نتعرف إلى المغامرة الكبري، إلى الشغف الكبير الذى لن تقدمه إلينا الحياة الحقيقية. تصبح الأكاذيب فى الأدب حقائق من خلالنا، يعيد القراء طرح الأسئلة على تفاهة الواقع؛ يُدخل فى أرواحنا التمرد والجرأة لتقليل العنف بين البشر»!.

M_ha7@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية