تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
دا سيلفا .. والرفاق القدامى!
الأسبوع الماضى، زار مصر أحد صناع المعجزات، الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا؛ فليس من السهل أن تقود بلدا تهزّه الأزمات الاقتصادية إلى مرفأ الأمان، لكن دا سيلفا فعلها بنهج خلاق: تنمية مستقلة وقرار واع وإرادة شعبية مؤمنة بجدارته؛ قاد البرازيل من ضيق اليأس إلى براح الأمل، انتشلها من هوة الإفلاس إلى ذروة التقدم؛ لتصبح أحد عمالقة الاقتصاد والسياسة على المسرح العالمى.
حكم لولا البرازيل فترتين رئاسيتين، بين 2003 و2010، كانت قبله دولة متعثرة، تحت وطأة التضخُّم والفقر والديون، والظلم الاجتماعي: قليل من الأغنياء، كثير من الفقراء، حالة من اللامساواة، واللامساواة جسر للفوضى والعنف والفساد والخلل السياسى والاستقطاب الاجتماعي.
فى البداية رضخ دا سيلفا لشروط صندوق النقد لانتزاع قرض 30 مليار دولار، لكن الاقتصاد واصل تدهوره، هنا نزع الرجل عباءة الصندوق، تبنى إستراتيجية جديدة (بعث البرازيل): تشجيع الصناعة وتحفيز الزراعة وتطوير قوانين الاستثمار وتنشيط القطاع الخاص، اختار معاونيه على معيار الكفاءة لا الثقة. تبنى نهجا مقاوما للفقر واللامساواة والفساد، المنافع يجب أن تعم الجميع، لا فئة بعينها، شن حملة للارتقاء بالتعليم والرعاية الاجتماعية والصحية، لاسيما برنامج الإعانة (بولسا فاميليا)، بإعطاء معونات مالية للأسر الفقيرة، بشرط التزامهم بإرسال أطفالهم للتعليم، عزز دولة القانون والحكم الرشيد،
تقلصت الفجوة التنموية وتدفقت الاستثمارات؛ فازدهرت الصناعة والزراعة والسياحة، ما انعكس على التنمية والأمن المجتمعي؛ سكنت مخاوف القطاع الخاص من توجهات لولا اليسارى، وخرجت البرازيل من سنوات عجاف هى الأسوأ فى تاريخها؛ بفعل الإرادة السياسية والتخطيط الجيد والعمل الدءوب!
كانت مدينة لصندوق النقد، فأصبحت مقرضا له، صار اقتصادها السابع عالميا، والأكبر فى أمريكا اللاتينية، وعضوا فى مجموعات: (العشرين)، و(البريكس) و(الميركسور)، وترنو إلى مقعد دائم بمجلس الأمن.
حقق دا سيلفا ملحمة تنموية هائلة لك أن تتخيل مردودها على الإنسان البرازيلى، صحيا وتعليميا وحضاريا..إلخ، وبرغم ذلك لاحقت الرجل حملات التشهير، عقب خروجه من القصر الرئاسى، بسبب (عقد شقة)، حكم عليه بالسجن، ثم خرج منه، ليعود مرة ثالثة إلى كرسى الرئاسة، بعد سقوط البرازيل فى امتحانى كورونا والأزمة العالمية، مهمته هذه المرة أشد وطأة، ونجاحه ليس مضمونا، إن السياسات النيوليبرالية التى اتبعها الرئيس السابق اليمينى بولسونارو (ترامب البرازيل) رفعت معدلات البطالة والفقر والتضخم والجريمة.
لولا فى السابعة والسبعين من عمره، يسعى لبناء دولة ديمقراطية حديثة؛ طلبا للعدل الاجتماعى واستقلال القرار الوطنى، بعيدا عن وصاية الولايات المتحدة التى تعتبر رئاسته البرازيل تهديدا لمصالحها بأمريكا اللاتينية، تضع واشنطن وأتباعها بالداخل البرازيلى العراقيل فى طريقه، لكن لولا الذى صقلته التجارب يحمل رهانات كبرى ويربك خصومه.
يذكرنى دا سيلفا بحوار الأستاذ هيكل مع رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو ومساعده كریشنا مینون عام 1958، والذى أورده هيكل بكتابه (الإمبراطورية الأمريكية)، قال نهرو: إننا محاصرون فى منافسة بين قوتين أمريكيتين، واحدة شريرة غامضة (تستعمل للتطويع والإخضاع) هى وكالة المخابرات المركزية، والثانية براقة وخداعة (تستعمل للغواية والإغراء) وهى سينما هوليوود.
ومشكلتنا أنه إذا فازت المخابرات المركزية أصبحت حريتنا مهددة، وإذا فازت هوليوود أصبحت ثقافتنا مهددة، هنا تدخل كريشنا، مذكرا نهرو بأنه نسى قوة ثالثة هى البنتاجون (فى إشارة للجيش الأمريكي)!
فرد نهرو: أظن أن فقدان الناس حريتهم أو ثقافتهم يمكن أن يتم بغير صخب، حتى دون أن يشعروا، لكن السلاح عندما يتحرك يثير ضجة تنبه الآخرين إلى أنهم معرضون لتهديد النار!.
يحاول دا سيلفا تجنب القوى الثلاث وأخطارها؛ لإعادة بناء أمته، يبنى الصف الداخلى على احترام القانون والحكم الرشيد وانتشال المعوزين من الفقر؛ إن معركة لولا الحقيقية هى صراع جيو-اجتماعى مع أمريكا قد يتوقف عليه شكل العالم!.
يمثل رجوع دا سيلفا للسلطة خبرا جيدا للعالم، فى معركة التغير المناخى، ويثبت أن قوة التفكير تضع الفرد والمجتمع فى قلب السياسة، وأن هذا ليس مرهونا بشهادة علمية، بل بالشعور بنبض المواطن واحتياجاته؛ لا يحمل دا سيلفا أى شهادة، سوى شهادة الوفاء والحب لشعبه، مقرونة بالإصرار على خدمته وتحسين أحواله، أيضا شهادة الزهد بالمنصب، وحب الرفاق القدامى من الفقراء.
خرج (لولا) من رحم الفقر والتهميش إلى قمة السلطة، ربته أمه مع إخوته السبعة فى غرفة واحدة، بعدما هجرهم أبوهم، عمل كماسح أحذية وعاملا بمحطة وقود، وميكانيكى سيارات، وعاملا بمصنع حديد وقُطع خنصر يده اليسرى فى أثناء العمل، لذلك كانت سياسة الانحياز للفقراء والطبقة الوسطى ورفع معيشة المواطنين، كلمة السر فى نجاح دا سيلفا فى الفترتين السابقتين.
فى حفل تنصيبه الثالث، أجهش دا سيلفا بالبكاء، وهو يعلن أنه سيعمل مع حكومته على مكافحة الجوع بالبرازيل، مبينا أنه لم يكن يتوقع أن يعود الجوع للبلاد، بعدما أصبح الجياع 30 مليونا، وتعهد- وهو يغالب دموعه- بأنه فى نهاية ولايته عام 2026، سوف يتمكن كل البرازيليين من تناول الوجبات والقهوة؛ مبينا أن المواطن يجب أن يأكل جيدا، ويحصل على وظيفة وراتب يتم تعديله وفق نسب التضخم، وأن يحظى بصحة وتعليم جيدين. لذلك يحظى (لولا) بمحبة شعبه، ما دفع الرئيس الأمريكى الأسبق أوباما للقول: «لولا هو السياسى الأكثر شعبية على وجه الأرض»!.
M_ha7@hotmail.com
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية