تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
بيليه.. وفلسفة سبينوزا
«إدسون أرانتس دو ناسيمنتو» فتى أسمر نحيل مثل عود ثقاب، أسرته فقيرة، تجمع الحطب وتبيعه، عمل ماسح أحذية ليساعد أهله، كان عمره عشر سنوات، لما رأى والده يجهش بالبكاء عندما خسرت بلاده البرازيل لقب كأس العالم فى كرة القدم عام 1950، فتعهد الصبى بأن يجلب الكأس لبلاده من أجل أبيه، العجيب أنه انضم لمنتخب البرازيل فى عمر الستة عشر، وفاز بثلاث بطولات عالم وليس واحدة، ليكون اللاعب الوحيد الذى حقق هذا الإنجاز، إنه ديكو (المحارب) أو الأسطورة أو الملك أو الأعظم أو الجوهرة السوداء المعروف بلقب بيليه الذى وافته المنية الخميس الماضى عن 82 عاما.
فى صباه كان يخطئ فى نطق اسم لاعبه المفضل بيلى، فأطلق عليه زملاؤه بيليه سخرية منه، لكنه سرعان ما أصبح أعظم لاعب كرة بكل العصور، علامة فى تاريخ الرياضة العالمية، موهبة فطرية تميز بسرعة البديهة وقدّم مهارات ولمحات وقيما لا تحصى، ما أضفى عليه هالة لا تخفت.بسبب موهبته الجبارة وسحرها صار أيقونة، لدرجة توقف القتال بين أطراف الحرب الأهلية فى نيجيريا عام 1967 لمشاهدة مباراة نادى سانتوس البرازيلى بقيادة بيليه أمام النسور النيجيرية، كما زار مصر والتقى الرئيس عبدالناصر، ووضعت شهرته الفائقة لدى عشاق الكرة منتخب راقصى السامبا فى قلوب الجماهير حول العالم، حتى اعتزاله عام 1977.
بعد الاعتزال لم يخب نجم بيليه، بل ازداد سطوعا، استثمر شهرته فى الأنشطة والمحافل المختلفة، لكنه تجنب اتخاذ مواقف فى السياسة، وتعرض لانتقادات لعدم رفضه الأنظمة الديكتاتورية التى حكمت البرازيل (1964-1985)، والتى وظفت هالته لأغراض سياسية. لكن مجلة (بلاكار) نشرت صورة له على غلافها عام 1984، وهو يرتدى قميصا مكتوبا عليه (الانتخابات الآن)، وهو شعار المطالبة بإنهاء الديكتاتورية، ووضعت له عنوانا (رأس جديد لبيليه). ولما صار وزيرا للرياضة كرس جهوده لتعزيز الرياضة رسولا للسلام بين الشعوب ومواجهة الجوع، وبرغم أنه من أعظم من لمست قدماه الكرة، فإنه تعرض للعنصرية مرارا، قال فى مقابلة مع صحيفة (إل باييس): «لقد عوملت مثل قرد، زنجى، لكننى لم أهتم، أفضل أن أكون قدوة لعائلتى، وجماهيرى، إنها معركتى». يليق به وصف الملهم صانع اللعبة الجميلة، أحب الاستمتاع بفنون الكرة لا المشاحنات، لم تمنعه التوترات فى الملعب أو عدوانية البعض تجاهه عن مواساة الخصوم واحترامهم، فاللعبة ليست حربا.
لم تخل حياته من زلات أو فضائح لكن المساحة الفضائحية تتراجع أمام السيرة الاستثنائية للاعب طارد حلمه حافى القدمين حتى اعتلى منصات التتويج، واختير أفضل رياضى فى القرن العشرين؛ لأنه ظل مخلصا لفكرة القيمة وتأثير اللعبة فى تقارب الشعوب، يحتفى به الناس ويحبونه فى كل بلاد الدنيا على تنوعهم، بوصفه تأكيدا بليغا لعظمة تتجاوز أى اختلافات سياسية واقتصادية، كان يقول: ولدت لكرة القدم، كما ولد بيتهوفن للموسيقى.. بيليه فيلسوف كرة القدم بالفعل، يختزل تاريخ الروح المعذبة والنقية لرجل أسود، صعد من الثرى إلى الثريا، تقوم فلسفته على تحطيم كل مقولة أو خطة قيلت أو طبقت فى اللعبة؛ فانتزع آهات الإعجاب فى المدرجات وعبر الشاشات، باتت اللعبة الأكثر شعبية فى العالم، ومنتخب السيليساو معشوق الجماهير، أصحاب الأقدام التى تجعل الآخرين يشعرون بأنها أقدامهم.
بفضل عمالقة اللاعبين، وبيليه على رأسهم، تجاوزت كرة القدم حدود التسلية التى يهرب إليها الناس من الأزمات، إلى اكتساب رمزية ثقافية وسياسية وحضارية، تبدو، بشكل أو بآخر، تمثيلا للصراع القديم بين المدن اليونانية، تحركها نزعة تحقيق الذات وفرض السيطرة على الآخر، لكن داخل مستطيل أخضر، فى سياق رياضى سلمى، تحت أعين حكام مطالبين بتطبيق قوانين اللعبة بعدالة ودون انحياز. كرة القدم صورة مصغرة من الحياة بكل تفاصيلها؛ الأهم فى أى مباراة ليس هو الأنا، بل استحضار الآخر، ليس كخصم، بل كطرف تُحقق معه الذات وجودها، وجود الآخر ضرورى وحيوي، قال عنها الروائى بول أوستر: هى معركة بين فريقين دون سفك دماء. تسود خلال المباراة الروح الرياضية على حساب العنف، والهدف الأسمى هو إسعاد الجماهير..أعين تترقب، قلوب تهدر، من أجل لحظة عبور الكرة خط المرمى، الخط الفاصل بين الأمل واليأس، لحظة مقدسة، تسديدة واحدة تُسعد ملايين وتُحزن ملايين، اللحظات النادرة لا تُمحى، الدموع رابط بين الفرح والحزن، مشاهد الختام لا توصف، قمة الإثارة: جنون، صراخ، قفز، هتاف، تصفيق، رقص وحتى بكاء وعناق، ليس فى الحياة ما يجمع كل هذه المشاعر المتضاربة إلا كرة القدم.
لكن كل هذه النشوة ليست اعتباطا، بل مشروطة بالتخطيط لا العشوائية، التدريب لا الفهلوة، العبقرية لا الطيش.. والموهبة الفذة مثل بيليه، تجسيد للعبقرية التى لا تنمو إلا فى جو من الحرية، فى الملعب على الأقل، العبقرية أصالة فى الفكر والفعل، تعكس فلسفة سبينوزا ودعوته لوحدة العقل والجسد، مراهنا على الاجتهاد والعطاء فى الدفاع والهجوم معا، للحصول على اللذة القصوى، بالسعى للخير وتجنب الشر، لذا نستمتع بهدف يحرزه بيليه مخالف للنواميس، فى دلالة على اتساق الفكر والبدن وانتصار الشخصية البشرية، فى كفاحها من أجل الفريق لا الفرد.. وداعا بيليه!.
M_ha7@hotmail.com
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية