تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الدكتور محمد عبدالمطلب!

عندما يرحل الأحباب عن حياتنا يصبح الكون ظلاما، يتركون ندوبا فى القلب، جراحا لا تبرأ؛ من الصعب أن تفارق روحا كانت جزءا منك، دون أن تتمزق قطعة من روحك؛ الأربعاء الماضى فقدت أستاذى وأبى الروحى الدكتور محمد عبدالمطلب أستاذ الدراسات الأدبية بجامعة عين شمس، آخر جيل العمالقة فى النقد الأدبى، المفكر الجسور، المحب للحياة والبشر والكائنات؛ كما يليق بإنسان نبيل!.

شرفت بأن ناقشنى البروفيسور عبدالمطلب فى رسالتى الماجستير والدكتوراه، فكان مثالا ساطعا للعلامة القدير الذى يفتح لتلاميذه آفاق المعارف.

إنه وجه صبوح مشرب بالحمرة، رأس كبير يعلوه الشيب، عينان تشعان بذكاء حاد، أنف من النوع الكلاسيكى، ذقن صغير كسهم مصوب بين كتفين نحيلتين، حزمة من العظام فى جسد تعدى الثمانين من العمر، وهى على هشاشتها «وزن ثقيل» فى ميزان الرجال الأفذاذ، شجاعة فى الحق لاتخشى شيئا، صوت عريض قادم من بعيد، وذاهب إلى أبعد، يفيض بالأبوة والتواضع والزهد، وأحيانا الغضب والعصبية.

يمتلك قدرة هائلة على الوصول إلى العقول والاستقرار فى القلوب؛ ليس هذا «العالم» مجموعة من الدراسات الجادة والآراء الثاقبة، إنه «مفكر» يشع بالحياة، يذكرنا بأرقى المستويات التى يمكن للإنسان بلوغها، مزيج نادر من ثقل المعرفة وخفة الروح، الصرامة الأكاديمية والطيبة الحانية، تصحبه البهجة حتى فى أدق المواقف، مثلما حدث خلال تسلمه جائزة «الملك فيصل العالمية»، بينه وبين عاهل السعودية الملك سلمان بن عبدالعزيز.. جائزة «فيصل» حلقة فى سلسلة من الجوائز التى فاز بها، كما منحته فرنسا «وسام فارس».

ولد عبدالمطلب فى 5 سبتمبر 1937 بالمنصورة، حاز ليسانس دار العلوم عام 1964، ثم عمل مدرسا بمدرسة «الليسيه»، وأتاح له ذلك رحلة سنوية إلى باريس؛ ما فتح أمامه أفقا للتعرف على ثقافات ومعارف الشعوب الأخرى، ثم حصل على الماجستير من جامعة القاهرة، والدكتوراه من آداب عين شمس عام 1978، الكلية التى عمل بها بعد ذلك. دخل الساحة النقدية متأخرا، حيث كان نظراؤه «نجوما» مثل جابر عصفور ويوسف نوفل وصلاح فضل وغيرهم، لكنه كان مثل لاعبى الكرة «الحريفة» المنطلقين من الخلف بسرعة لهز الشباك؛ فصار ناقدا ومفكرا لامعا فى الوسط الثقافى المصرى والعربى. وسيلته فى ذلك «الجهد المضاعف المتواصل بلا كلل»، لم تكن الشهرة غايته، إنما العلم وحده؛ ظل واعيا بمقولة نيتشه: «يتعجل الناس السير نحو الضوء لا لكى يُروا جيدا، إنما ليلمعوا»..

آمن الرجل بأن «العلم لن يعطيك بعضه، إلا إذا أعطيته كلك»؛ فوضع لحياته نظاما منضبطا غاية الانضباط، فى النوم والقراءة والكتابة ورياضة المشى والطعام، يعرف ما يعنيه الوقت، يبدأ مشوارا من القراءة قبل الكتابة، القراءة مهارة تشبه النصل الذى عليك أن تشحذه ليشذب معنى الأشياء فى رأسك.

تمكن الدكتور عبدالمطلب من العثور على النغمة الصحيحة فى الوجدان العام؛ عبر غزارة إنتاجه العلمى (35 كتابا، ومئات المقالات والدراسات)؛ ما جعل لأفكاره ورؤاه وهجا خاصا؛ لاعتقاده بأن الأفكار كالبذور الطائرة، حين تذروها الرياح، تبحث عن أرض خصبة علها تمد جذورها إلى قلبها لتستقر وتترعرع. أخلص جهده لإعادة قراءة التراث البلاغى العربى، لإنصافه مما لحق به من ظلم، فأسهم، بقوة، فى بعثه من رقدته بعدما قيل إنه «علم قد احترق»، ظهر هذا فى كتبه: «البلاغة والأسلوبية»، و«البلاغة العربية»، و«قضايا الحداثة عند الجرجانى». ثم انصب جهد عبدالمطلب على استيعاب المنجز النقدى الحداثى فى دهاليز الفكر العالمي؛ معيدا قراءة التراث العربى، على هدى الأول للتوفيق بينهما، في: «دراسات فى النقد العربى القديم»، و«العلامة والعلامية»، و«القراءة الثقافية»، ثم «بناء الأسلوب فى شعر الحداثة»، و«مناورات الشعرية»، و«النص المشكل»، و«شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة». ثم انعطف إلى دراسة السرد بعمق فاتن، في:«بلاغة السرد»، و«قراءة السرد النسوى»، تاركا الحكم النهائى للقارئ.

سارت مؤلفات عبدالمطلب فى نهج العقلانية والتسامح والاجتهاد والوعى وشمول الرؤية، وعدم الانفصال عن الواقع، بكل معطياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أى البنى الحضارية المشكلة للواقع؛ الثقافة فى معناها العام –عنده- هى كل ما يتصل بالحياة، لإيمانه بأن الناقد التنويرى عليه أن ينشغل بهموم الناس، لأنه سيخسر كثيرا جراء عزلته داخل دائرته النصية.

خاض عبدالمطلب معارك فكرية كانت آراؤه فيها فى «الاتجاه المعاكس»، فإلانسان موقف مهما تكن سطوة «العصا أو الجزرة»؛ ظل يقاوم فساد الواقع العربى الإبداعي؛ نافرا من التربيطات والِشلل من التيارات المختلفة؛ آمن بأهمية الحرية المسئولة؛ فلابد من حرية الإبداع للجميع، وفى الوقت نفسه صيانة الأخلاق، رفض أن يحكم «الفقهاء» على الإبداع، أو ألا يحترم المبدعون الأديان والأخلاق. وحذر من ضياع الشخصية العربية، بتراجع الاهتمام باللغة العربية، كما دأب على مطالبة الأنظمة السياسية بعدم الاستخفاف بأهمية الثقافة أو محاصرة الإبداع أو تسطيح القيم الفنية.

ظل حتى وقت قريب، يعقد حلقة نقاشية، يقابل فيها تلاميذه ومحبيه من جميع الجنسيات، صباح كل جمعة، بأحد كازينوهات مصر الجديدة، عصف ذهنى بين أجيال وأفكار، يهوى التقاط المواهب، يأخذ بأيديهم، حتى يصيروا نجوما فى دنيا الإبداع والثقافة. إنه أحد المثقفين الكبار الذين يعتبرون أن من مهامهم تحريك ثقافة المجتمع وجعل الناس أكثر تحسسا للجمال الفنى والأدبى وكسرا للحجب؛ بما يحقق المصلحة العامة، والسير إلى النهضة والتقدم؛ رحم الله العلامة محمد عبدالمطلب!.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية