تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الأغنياء والفقراء.. والاقتصاد

الفقر ظاهرة محيرة، بل إحدى أبشع الظواهر فى التاريخ، تنطوى على مفارقات محزنة وتخفى أهوالا يصعب وصفها، أما الجناة الحقيقيون فهم فى ركن وثير ينعمون بأكوام ثرواتهم وغنائمهم، مشهد يثير أسئلة بلا حصر: لماذا تصعب الحياة على الفقراء، مثلما يصعب على أبنائهم أن يتعلموا، حتى وإن التحقوا بالمدارس؟ ثم ما الذى يجعل فقيرا لا يجد قوتَ يومه يشترى جهاز تليفزيون؟ ولماذا ينفق الأشد فقرا 7% من ميزانية طعامهم على السكَّر؟ وهل إنجاب المزيد من الأطفال يجعلك حقًّا أشد فقرا؟..إلخ.

 

أسئلة يطرحها كتاب «اقتصاد الفقراء» للأستاذين الأمريكيين بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أبهيجيت بانرجى الهندى الأصل وإستر دوفلو الفرنسية الأصل الحائزين على نوبل فى الاقتصاد عام 2019، أما السؤال الأهم الذى يطرحه الكتاب: كيف نحارب الفقر المدقع فى العالم؟.

من المعلوم أن أجمل الكتب هى التى تُغيّر نظرتنا للأشياء، لا بسبب معلوماتها المخالفة لما نعرف، بل عندما تصبح نافذة نرى من خلالها زاوية جديدة، تبصرنا بمعالم كانت غائبة عنا. يتجول بنا كتاب «اقتصاد الفقراء» فى عقول الفقراء وبيوتهم، كيف يفكرون ويتصرفون إزاء ما يُقدّم إليهم أو يُطلب منهم، كيف يتفاعلون مع حلول الحكومات لأزماتهم،

كما يتقصى الكتاب آفاق ما يُقدّم للمجتمعات الفقيرة من معونات ومساعدات وبرامج من الدول الغنية والمؤسسات الدولية، ويسعى إلى تقييم ما تحقّقه هذه المساعدات والبرامج من تغيير فى حياة تلك المجتمعات.يستند المؤلفان إلى تجربة مثيرة لمعايشة الفقراء، على مدى أكثر من 15 سنة، فى عشرات الدول عبر خمس قارات، سعيا لمعرفة الإجابة عن هذه الأسئلة، وفهم الحقائق الملغزة حول الفقر، لمن يعيشون على أقل من دولار فى اليوم. يعانى الفقراء فى هذا العالم المجنون، الجوع والمرض والجهل وقلة المال أو انعدامه، معاناة هائلة تؤثر على حيوات هؤلاء البشر المهمشين، فالعالم منشغل بالصراعات والحروب والتكالب على مصادر الثروة، لا وقت لديه للبحث عن حلول لمشكلة أكثر من مليار شخص جائع، لا يجدون ما يسدون به رمقهم، يتشوقون لكسرة خبز نظيفة، أو شربة ماء نقية، تدق منظمة الأغذية والزراعة «الفاو»، ناقوس الخطر أن هناك بالفعل من يموت جوعا فى عالمنا ذاك.

يَسوْق «اقتصاد الفقراء» وقائع وإحصائيات تثير الدهشة والاستغراب، يخبرك عن أسباب انخفاض مستويات تطعيم الأطفال فى قرى نيجيريا، برغم وجود الوحدات الصحية، ثم يعرج بك إلى كينيا، غائصا فى سرائر الفقراء، بحثا عن أسباب عدم استخدامهم الناموسيات لمنع الإصابة بالملاريا، برغم فعاليتها فى الحماية من البعوض المسبب للمرض، صحيح أن الناموسيات توزع مجانا لكن قطاعا من الفقراء يستخدمونها كشبكة لصيد السمك فى بحيرة فيكتوريا لسد جوعهم، فتستمر الإصابة بالمرض. ثم يذهب بك فى رحلة إلى الهند لتفاجأ بأن عددا من الفقراء يقترضون بمعدل فائدة 5%يوميا، أى أرقام فلكية سنويا، كونها فائدة مركبة.. الهند بلد المتناقضات بلد الثراء الفاحش والفقر الأليم، فى شوارع الهند، ناطحات سحاب تلاصق أكواخ الفقراء، فى ظل انفجار ديموغرافى مهول، يؤثر سلبا على التوزيع العادل للثروات بين المواطنين.

قبل أيام، أسالت المراسم الأسطورية لزفاف نجل الملياردير الهندى موكيش أمبانى الكثير من الحبر وأثارت الفضول، وكأنها صفحة من «ألف ليلة وليلة» بحضور كبار أثرياء العالم، تكلفت الاحتفالات 150 مليون دولار، ما يجعله أغلى زفاف فى تاريخ الهند وربما العالم، يعد موكيش أمبانى أغنى رجل فى آسيا،ويأتى فى المرتبة العاشرة على قائمة كبار أغنياء العالم بثروة 117 مليار دولار، وتشمل إمبراطوريته قطاعات النفط والاتصالات والنسيج والكيماويات، فى غضون ذلك يعانى كثير من الهنود سوء التغذية، ويسكنون فى «عشش الصفيح» يضرب الكتاب مثلا بمواطن هندى فى الأربعين من عمره، فقد عمله فى الزراعة، وتوجه للعمل فى قطاع البناء، لكنه لم يستطع أن يتحمل،فهو لا يأكل السعرات الحرارية الكافية لتقوية جسمه، هذا المثال ينطبق على الكثيرين، ليس فى الهند وحدها، بل فى كثير من الدول الفقيرة.

يفترض الكاتبان أن السبب الأول فى ذلك ربما يكون سوء توزيع الثروات، بين الدول والطبقات، فالأغنياء الذين يملكون ويستحوذون على كل شىء، لا يلقون بالا لمن جاع أو أكل. وللإنصاف، البلدان الفقيرة ليست وحدها، هناك دول غنية يعانى بعض أهلها تفاوتا حادا فى أنصبة الأفراد من الثروة الوطنية وغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.

خلال الأعوام الثلاثة الماضية عانت فرنسا احتجاجات غير مسبوقة، ربما تكون الأكبر والأعنف منذ سنوات، إنها ثورة الفقراء، الذين أحسوا أنهم من يدفع ثمن سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون، الذى يصفونه بأنه «رئيس الأغنياء» الذى لا يهتم بالفقراء، رفع المحتجون من شباب الضواحى أو من أصحاب «السترات الصفراء» السقف مطالبين باستقالة ماكرون، وسط سخط شعبى من سوء إدارة الحكومة، لكل القطاعات: اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، يؤكد هؤلاء المحتجون أن المأكل والملبس والتعليم والصحة والعمل هى بديهيات فى قانون الإنسانية، ضرورات للحياة ينبغى أن يحصل عليها الجميع، وغير ذلك خداع من جانب الأثرياء ومعاونيهم من رجال السلطة، فالفساد توأم العوز، لكن ما هى السبل التى يطرحها كتاب اقتصاد الفقراء لمواجهة أخطر تهديد للبشرية، أى الفقر؟..

ذاك حديث آخر!

M_ha7@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية