تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الأستاذ هيكل وخريف الأكاذيب
لم أستغرب أبدا أن يتجدد الهجوم على الأستاذ محمد حسنين هيكل (1923-2016)، رئيس تحرير الأهرام الأشهر؛ كان الرجل أحد شهود التاريخ عند القمة، لاسيما طوال فترة حكم الزعيم جمال عبدالناصر وبدايات عهد الرئيس أنور السادات، فأصبح موضع حسد بل حقد كثيرين من رجال السلطة، قبل رجال الصحافة، لقربه الشديد ونفوذه لدى الرجل الأول؛ حتى إنه تعرض لمحاولة اغتيال برصاصتين أصابتا سيارته، فى نوع من «صراع حيتان هائجة فى البحر حولته بجراحها إلى بقعة حمراء من الدماء»، حسب تعبير هيكل نفسه.
قالوا فيه ما لم يقله مالك فى الخمر، شنوا ضده حملات شرسة؛ وكالوا له اتهامات جزافية لتلطيخ صورته؛ حتى يفقد مصداقية كتاباته وتثور زوابع الشك فى أحاديثه،
وصفوه بأنه يزيف التاريخ، بل قال بعضهم إنه «جاسوس» مرة لموسكو وتارة لواشنطن، ولم تسلم صحيفة «الأهرام» من سهامهم، بحكم موقعه الأثير فيها. ظلت رياح العداء والبهتان والتضليل تهب على الأستاذ هيكل، فى حياته وبعد مماته، وآل على نفسه ألا يرد على القوم، بيد أنه خرج عن تلك القاعدة ذات مرة، رد على خصومه ومهاجميه فى ختام مقال بعنوان: «كيسنجر وأنا.. ومجموعة أوراق»، مفندا مزاعمهم، قال: إنه «ليست لديّ أحقاد قديمة أو جديدة أتلوى بتقلصاتها، وليست هناك سلطة أضع نفسى تحت مظلتها، أو أرضى بذلك لنفسى أو لها، لم أشتم أحدا، ولم أسق الكلام غامضا وجزافا، ولم أدع على الناس غير ما قالوه، ثم أروح أناقشهم فيما ادعيته عليهم، بصرف النظر عما قالوه، ولم أنسب للغائبين ما لم يجر على لسانهم، إنما رويت عن أحياء أقوياء ونسبت إليهم - بخط أيديهم وبألسنتهم - وفى استطاعة أى واحد منهم أن يناقض ما رويت.
وفى النهاية فلقد وضعت نقطة واحدة على حرف... والحروف كثيرة والنقط أكثر. وليس عن عجز إنما عن عفة»!.
يظل هيكل تجربة فريدة فى الصحافة المصرية والعربية، وإن كان لها أشباه فى بلاد أخرى: الصحفى والتر ليبمان مع الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت، وبيف ميرى مع الرئيس الفرنسى شارل ديجول، ووليام زيس مع رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر، إلخ.
وبالطبع كل تجارب البشر قابلة للنقد، وجميع أدوار البشر، بمن فيهم الأبطال قابلة للتقييم والمراجعة، شرط أن تكون الجدية والموضوعية والإنصاف أساسا للنقد والتقييم والمراجعة، من ثمّ من حقك أن تنتقد هيكل أو ترفض آراءه، لا بشر مقدسا أو فوق النقد- إلا المرسلين- هيكل نفسه كان يمارس النقد الموضوعى بلا حدود.
بالأمس القريب جدد أحدهم الإزدراء بهيكل وبالأهرام فى «خريف أكاذيب»، لكن الشقاء كل الشقاء أن تهاجم الرجل وتحاول أن تقلده، ثم تفشل فشلا ذريعا، على المستويات كافة؛
إن أمثال هؤلاء هم أحد أسباب حضور «الأستاذ» وبريقه المتجدد، برغم الغياب والارتحال إلى الشاطئ البعيد؛ لهذا سيظل هيكل رمزا كبيرا وهامة عملاقة فى تاريخ الصحافة والسياسة؛ من فرط إجادته مهنة الصحافة ولعبة السياسة لا تعرف أيهما يهوى وأيهما يحترف،
إنه الكاهن الأكبر فى بلاط الصحافة العربية وكبير الطهاة فى مطبخ السياسة، شقى كثيرون فى تقليده وعادوا بخفى حنين، فانهالوا عليه تجريحا، وفى كل مرة يخرج منتصرا، حيا وميتا.
وكيف لا؟
وهو المعلم الأول فى بلاط صاحبة الجلالة، «الجورنالجي»، بوابة «مدينة الرأي»، كتاباته مزيج من البصر والبصيرة، الرأى والحكمة، الجرأة والخبرة، ثقافة متعددة الروافد، معرفة عميقة بدنيا الفكر وخبايا الاستراتيجية ودهاليز مراكز القوى الإقليمية والدولية.
كان هيكل «بوصلة وطن» فى أزمنة العواصف، يتحدث «بصراحة» مهما تكن المصارحة مزعجة، طراز نادر الشجاعة الأخلاقية والعبقرية المهنية؛ وصفته «واشنطن بوست»: «بأنه أفضل صحفى فى العالم بالقرن العشرين»، وفى أكتوبر 2007، قدمته مديرة التدريب بوكالة «رويترز» لإلقاء محاضرة بجامعة أكسفورد، قائلة: «أكاد لا أصدق أننى أقف أمام الأسطورة الحية»!.
يسحرك «الأستاذ» بعذوبة كلماته، وانسيابية قلمه، وذهنه التحليلى القوى، وهو يزيل المساحيق والأصباغ عن وجه الحقيقة، ويميط اللثام عن أسرار مكتومة خلف أبواب حصينة مغلقة، مدرسة كاملة فى الفكر الاستراتيجى، ومن ثم تحلق الناس حول «الأهرام» لقراءة كف الدولة من كتاباته، وحول الشاشات لمتابعة حواراته؛ نهضة مصر وتقدمها هى الثابت لديه، وما عداها متغير.
إنه رجل المعارك الذى لا يكف عن إثارة الجدل ولا يلقى بالا للمتنطعين، يرفض «مدرسة الإثارة» أو «الصحافة الصفراء»، ارتقى بالأهرام إلى أن أصبحت إحدى أهم عشر صحف فى العالم، وجعلها «قلعة» للمصداقية والفكر والحداثة والرزانة؛ إطار مؤسسى منضبط، بأعلى المعايير المهنية الدقيقة، وليس مجرد مدرسة صحفية عادية، حتى صارت بحق إطلالة مصر على العصر.
عند التدقيق، تظل الكتابة «عن الأستاذ» أشبه بالجرى على رمال متحركة، مهما امتلكت أدواتك، تجدها عاجزة عن التعبير عما يجول بخاطرك، أمام روعة المعنى والمبنى ودقة الرسالة وسمو الهدف، فى مقالاته وكتبه وبرامجه التليفزيونية، بكل ما فيها من حفر معرفى عميق بحثا عن الحقائق، حتى نتعامل بوعى مع شراك التاريخ الخداعية، وتكتب لنا السلامة؛ بدأ هيكل كتابه «بين الصحافة والسياسة»، بإهداء مؤثر لشباب مصر والأمة العربية: «حتى لا يضيع منهم الغد، لسبب لا ذنب لهم فيه، سوى أنهم لم يكونوا معنا بالأمس».
سلام على هيكل!.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية