تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

استعراض العضلات الأمريكية!

بدا العالم مصدوما الأسابيع الماضية، بعد تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حول رغبته الجامحة فى شراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك، وضم كندا لبلاده، وتلميحه إلى غزو المكسيك والسيطرة على قناة بنما؛ يخشى كثيرون أن تلك التصريحات نذير بإطلاق الفوضى من عقالها، خلال ولاية ترامب الثانية؛ فهو لا يكترث بقواعد «النظام العالمى» أو القانون الدولى، حتى حلفاؤه لم يسلموا منه، يحرجهم، يفقدهم توازنهم، بل ربما يسحقهم مادام ذلك فى مصلحته.

 

فى تاريخ فن الحكم بالولايات المتحدة، تمثل رئاسة ترامب نقطة تحول، تنذر بتغيرات جذرية؛ يتحسس جيران أمريكا أراضيهم؛ خشية أن تكون ولايته الثانية مدخلا لعودة التمدد الامبراطورى الأمريكى، بنعومة أو بخشونة، لاسيما أن الجغرافيا الأمريكية توسعت عبر مراحل تاريخية،

ففي عام 1803 اشترت ولاية لويزيانا بثمن بخس، وكذلك فلوريدا من البريطانيين، وألاسكا من الروس،

اللافت أن قطاعا مهما من النخب الأمريكية تتفق مع رؤى ترامب الامبراطورية، لاسيما بين منتسبى «المجمع الصناعى العسكري»، الذين يؤمنون بضرورة الاستفراد الأمريكى بوضعية القوة العظمى وتوسعها، بكل ما يلزم من قوة عسكرية واقتصادية وسياسية، وبقدرتها على استخدام عناصر هذه القوة تجاه آخرين؛ اتساقا مع رؤية استراتيجية صاغها أمثال كينان وكيسنجر وبريجنسكي.لدرجة أن هذه النخب تعتبر أى خبير يرفض استخدام القوة الأمريكية لعلاج الأوضاع الدولية «شخصا انعزاليا».

فى كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى»، يطرح زبيجنيو بريجنسكى رؤيته الجيواستراتيجية لضمان التفوق الأمريكى، فى القرن الحادى والعشرين، يقدم دليلا فلسفيا وعمليا كى تحافظ الولايات المتحدة على مقعد القوة العظمى التى اكتسبتها بشق الأنفس، وتديرها دون منازع،

يضع بريجنسكى أساس رؤية للمصالح الحيوية الأمريكية، تقلب الأمور رأسا على عقب، وتتلخص عمليا فى إدارة الصراعات والعلاقات فى أوراسيا، أوراسيا موطن الجزء الأكبر من سكان العالم وموارده الطبيعية ونشاطه الاقتصادى، تمتد من البرتغال إلى مضيق بيرنج ومن لابلاند إلى ماليزيا، أوراسيا هى قلب رقعة الشطرنج الكبرى، تسعى واشنطن لمنع قيام أى قوة منافسة تهدد مصالحها أو رفاهتها فى كل ساحات أوراسيا، حيث خطوط الصدع حاسمة لكنها مألوفة،

و تتبع بريجنسكى الحقائق الجيوسياسية، نظر إلى الصين باعتبارها تهديدا ما مثّل نبوءة آنذاك، خاصة بعدما حققت نموا اقتصاديا هائلا؛ انتقل من مجرد طفرة فى «الهندسة العكسية» إلى اقتصاد صناعي- معرفى تنافسى، كما تتبنى بكين مشروع «الحزام والطريق» أضخم مخطط استراتيجى يضم 68 دولة على الأقل، باستثمارات تصل إلى 21 تريليون دولار، وهو محور ارتكاز للصين فى الوصول إلى مقعد القوة العظمى؛ وتعتبره الولايات المتحدة خطرا يضرب ركائز التفوق الأمريكى، التكنولوجيا والسيطرة الاقتصادية.

أما روسيا- برغم قسوة ظروفها وانكشافها فى الأزمة الأوكرانية- فإنها لم تفقد روح المنافسة والمشاكسة مع الغرب، تنطلق فى الفضاء السيبرانى لتجعله ميدان معركة، يهدد التفوق التكنولوجى الأمريكى، يحوله من ميزة إلى ثغرة؛ اتهمت روسيا بإحداث أزمات توزيع فى محطات الوقود الأمريكية والبريطانية، عن طريق التدخل السيبرانى، كما اتهمت بإدارة الانتخابات الأمريكية لصالح مرشح ترغب به موسكو، لا الناخب الأمريكى، دونالد ترامب نفسه محاصر باتهامات من هذا القبيل.

هكذا تنظر الاستراتيجية الأمريكية إلى الصين وروسيا كمهددين؛ يعملان لاحتواء تفوق واشنطن وعرقلتها عن حماية مصالحها وحلفائها فى العالم؛ باعتبار البلدين خطرا على استقرار الاقتصاد الدولى المفتوح والنظام العالمى إجمالا.فى الوقت نفسه،

تفصح تصريحات ترامب حول رغبته فى ضم جرينلاند وكندا والمكسيك (كلها دول ديمقراطية) عن توسع حدود وحواف «رقعة الشطرنج الكبرى»، بدءا من الجوار القريب وصولا إلى حدود الصين وروسيا مرورا بالشرق الأوسط بالقطع، برغم ادعاء الولايات المتحدة بأن الأنظمة الديمقراطية لا تتقاتل ولا تطمع فى أراضى الآخرين أو ثرواتهم، طوال العقود الماضية، لم يفتأ زعماء أمريكا يرددون أن قوتهم تتماشى مع مسئوليتهم التى لا غنى عنها لبناء عالم أكثر استقرارا وسلاما؛ بفضل الديمقراطية والحدود المستقرة والقيم الإنسانية،

لكن يبدو أن ذلك عهد انقضى، سيحل ترامب رؤية جديدة للسياسة الخارجية، أكثر صراحة ووضوحا عن تلك التى سادت منذ الحرب العالمية الثانية؛ سوف يتخلى عن القيم ويفرط فى التوظيف الانتهازى للنفوذ، ويركز على تكديس القوة واستغلالها؛ لإيمانه بأنها وحدها تخلق السلام؛ سيلجأ إلى أساليب غير تقليدية، ويختبر ذلك فى صراعات الشرق الأوسط وأوكرانيا والحرب الباردة مع الصين؛فى خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل نظام عالمى، لا يخضع لأهواء المنافسين.

تغرق الاستراتيجية الأمريكية فى تناقضات غير معترف بها، تصرّ واشنطن على نموذج القيادة العالمية العسكرية، حتى مع تضاؤل أهمية هذا النموذج، والموارد المتاحة لمتابعته، وانخفاض المكانة المتميزة للبلاد عالميا؛

أما الأخطر فهو أن سلوكيات ترامب تؤجج وتدعم رغبات الطغاة فى التراجع عن القيم العالمية وتهميش المنظمات الدولية؛ فإذا عمد ترامب، مثلا، إلى توسيع الحيز الأمريكى ليشمل جرينلاند وكندا والمكسيك وبنما، فإنه يمنح بذلك سندا ومبررا لمبدأ استخدام القوة فى العلاقات الدولية، ويعطى دافعا لقيام روسيا بضم أوكرانيا أو جورجيا، وضم الصين جزر البحر الجنوبى، ولمساعى إسرائيل لتوسيع حدودها من النيل إلى الفرات، ما يعد دليلا على قصورالرؤية؛ بينما تتكثف التحديات بكل مكان، والتى تتطلب تعاون الدول للاضطلاع بمسئولياتها تجاه الأزمات الإنسانية الوفيرة.

وهذا حديث آخر.

 

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية