تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
«خلّيها على الله»!
تثبت مسيرة الأديب الكبير يحيى حقى (17 يناير1905- 9 ديسمبر1992) بما لايدع مجالا للشك أن الرجل المنتج أقوى من حوافز الإحباط ومغريات اليأس؛ الإنتاج أو الإبداع بحد ذاته مقاومة جسور لعوامل الضعف والوهن،أو الفناء، سواء أكانت كامنة داخل النفس أو معربدة خارجها؛
تقيّد حقى بأصول المعرفة ثم حلّق على جناح الفكر والإبداع إلى سماوات عالية، بحثا عن حلم التحرر من أسباب الانحطاط، كالجهل والكراهية والظلم والاستبداد.. هذا الحلم هو العمود الفقرى لمشروعه التنويرى الإبداعى والفكري.
مرت ثلاثون عاما على ذكرى رحيل حقى، كتب الرجل فى مجالات: القصة والمسرح والفنون الشعبية والموسيقى والسينما والترجمة وغيرها، تنوع يعكس ثراء شخصيته وأفكارها، وعمق مخزونها الثقافى والإنسانى، ناقد مرهف، ومؤرخ أدبى من طراز رفيع، فى كتاباته لا يخفى عنا شيئا؛
يوشك عالمه القصصي- بحسب الدكتور صبرى حافظ- أن يكون تقطيرا لحصاد عين قريرة هادئة، تلتقط أدق ارتعاشات الواقع وأخفى خلجاته على العين المراقبة، ثم تخضعها لعملية تأملية تنطوى على معرفة عميقة بالنفس البشرية والواقع الذى يتعامل معه، ثم تعود لتقدم ذلك كله من خلال منهج فنى صارم لا يسمح بالحشو أو الميوعة اللفظية أو البنائية.
يجيد يحيى حقى القبض على أدق التفاصيل، ببراعة نادرة، يبث فى طياتها شفرات ورسائل، يبنى عالما متقد الجذوة، مفعما بالمقاصد، متعدد السطوح والمرايا، مثلما فعل فى (قنديل أم هاشم) و(البوسطجى)، و(أم العواجز)، و(سارق الكحل) و(عنتر وجولييت)، أيضا فى (خليها على الله)، (ناس فى الظل)، و(من باب العشم) و(تراب الميرى)، (من فيض الكريم)، (صفحات من تاريخ مصر) حيث يمزج السياسى بالتاريخى والفكرى بالاجتماعى، فى خلطة باهرة.
جغرافيا: يركز عالمه الإبداعى على فضاءين أساسيين: حى السيدة زينب فى قلب القاهرة، الحى الذى نشأ وخبر إيقاع الحياة فيه، والقرية المصرية لاسيما فى الصعيد، ومن خلال هذين العالمين استطاع أن يقطر بالفن روح مصر المتمردة على قيود التخلف والانكسار والتبعية، مصر الباحثة عن النهضة والرقى والتقدم، سبر يحيى حقى تياراتها التحتية، روحيا وفلسفيا واجتماعيا فى المدينة والقرية على السواء.
وفى إحدى مرات تكريمه بألمانيا كتب يقول عن رمزية المحروسة وأهلها: صغيرة الحجم لا يندلق منها شىء لو لففتها فى منديل، كلمة من حروف قليلة، كالمصدر الثلاثى، واردة فى نص مكتوب على لفافة البردى، طولها خمسة آلاف سنة، علامات الترقيم فيه على هيئة شمس وصليب وهلال. ولكن هذه الكلمة الصغيرة هى عندهم الرواية كلها والدنيا بأجمعها. تمر فوق رءوسهم عديد من الطيور المهاجرة، أما هم فأقدامهم مثل عظام موتاهم مغروزة فى الأرض؛ فهيهات أن يفركوا عنها طينها.
كان حقى عاشقا لمصر شغوفا بأهلها، لم يحصر نفسه فى دنيا الطبقة الوسطى فى المدينة، أو يقتصر على رؤية العالم عبر منظورها الطبقى، حاول أن يقدم إلى جانب شرائحها المتعددة أبناءالقاع فى المدينة والقرية؛ فحفل عالمه بالعديد من النماذج البشرية المقهورة والثرية فى إنسانيتها أو تجربتها، برغم هامشيتها فى رحابة إنسانية فياضة؛ نعثر فيه على العديد من الخدم والحرفيين والشحاذين والدراويش والعاهرات وبائعى الروبابيكيا والرعاة والمجرمين وغيرهم؛
صارت كتاباته نوعا من المسح الاجتماعى للواقع المصرى، وبينما تواجهنا شخصية (البوسطجى) ابن المدينة الساذج بحرارة المأساة الإغريقية وهى تتخلق أمام أعيننا فى قرية كوم النحل، تطرح (قنديل أم هاشم)إشكالية قومية وحضارية محيرة بالنسبة لمصر، تدفع القارئ إلى التعاطف مع بطلها إسماعيل والسخرية منه فى الوقت نفسه؛ كأن يحيى حقى يبرهن على أن معارضة تقاليد الواقع وقيمه تعرض البطل إما للعقاب الاجتماعى، أو التضحية الطوعية بالنفس. وما أن يفطن إسماعيل إلى أوجه القصور فى رؤيته ورؤى المحيطين به حتى يجد مخرجا ولو ضيقا لمحنته، فالتغيير لابد أن يولد من رحم المجتمع أو بعد تمرير الرؤى الجديدة من مرشح التقاليد، لا أن يكون قرارا فوقيا استعلائيا لا يراعى الظروف أو يعصف بالصالح من تلك التقاليد، فالفشل بانتظاره عندئذ.
يقترب حقى فى ذلك من ديستويفسكى الذى يغمر شخصياته بمحبته وفهمه وعطفه عليهم، يصور نماذج إنسانية استطاعت تحقيق ذاتها بقوة إرادتها، تحقيق يمتزج غالبا ببعض العناصر المأساوية.
كل شخصية إنسانية تصبو إلى حياة كريمة، وترغب فى أن يكون وضعها أفضل، لكن حينما تفتقر هذه الرغبة إلى الإرادة الحقيقية والأهداف النبيلة السامية لمصلحة المجموع - لا القلة القليلة - تكون العواقب وخيمة.
الإبداع لدى يحيى حقى قيمة فنية وفكرية وإنسانية معا، أداة لتنوير المجتمع وتقدمه، يتسق هذا مع تكوينه الثقافى وسلوكه المهنى، تقلب حقى فى عدة وظائف، هو أحد أبرز مؤسسى اللبنات الأولى لوزارة الثقافة، اكتشف مواهب إبداعية وفتح لها الآفاق، خاصة خلال رئاسته مجلتى الفلسفة والمجلة، إنه الأب الروحى لجيل الستينيات. لم يبحث يوما عن مغنم شخصى، ضرب المثل والقدوة الحسنة، بوصفه مبدعافريدا يرسى قيما أساسية فى ساحة الممارسة الثقافية والعمل العام، دون تفريط أو ابتذال، أدار ظهره لسيرك الشهرة وألاعيب السياسة، وتعفف عن صغائر الصراع على المكاسب والنفوذ، فكان محبوبا من الجميع.
كما تكشف رسائله لابنته الوحيدة عن جانب آخر فى شخصية صاحب القنديل، أى شدة التعلق بالخالق سبحانه وتعالى، مستشعرا عظمته ورحمته فى كل آن، بوسطية واعتدال، رغم اطلاعه الواسع على الآداب الأجنبية، بعكس آخرين تأثرت نظرتهم للعقيدة قليلا أو كثيرا بأسفارهم الخارجية.
لذلك أدرك المجتمع المصرى والعربى المكانة السامقة التى يمثلها ابن البلد يحيى حقى وأدواره فى إثراء عقول الجماهير بالرؤى والمعارف والفنون، والسير بالمجتمع إلى الأمام على درب التطور والتحضر، منحته الدولة جائزتها التقديرية، وكرمه الرؤساء عبدالناصر والسادات ومبارك، كما نال جائزة فيصل، إلخ.
يقول حقى: من حسن الحظ ألا ينقطع عن ذكرك أناس، وألا ينقطع عن نسيانك أناس، وأن ينساك أناس ثم يذكرونك!
M_ha7@hotmail.com
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية