تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

"أما العبيط فهو أنا، وأما جَنتى فهى أحلام نسجتُها على مَر الأعوام عريشةً ظليلة، تهُب فيها النسائم عليلة، فإذا ما خطَوت خطوة خارجها، ولفحتنى الشمس، عُدت إلى جَنتى، أنعم فيها بعزلتى، كأنما أنا الصقر الهرِم، تغفو عيناه، فيتوهَّم أن بُغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفرى جناحيه، فيغفو، لينعم بحلاوة غفلته"

هذا ما خطه قلم الدكتور زكى نجيب محمود (1905/1993)، فى كتابه جنة العبيط؛ والذى أهداه إلى الأستاذ العقاد، فاقترح عليه عنوانا آخر جهنم الحصيف!..

والفيلسوف زكى نجيب محمود أحد أقطاب الفكر العربي؛ صاحب المنطق الوضعى وخرافة الميتافيزيقا؛ انخرط فى تشريح ونزع الأورام التى طبعت حياتنا؛ وجعلت العقل العربى يكف عن الإبداع ويركن إلى التسليم والتقليد والاجترار.
لاحظ هذا المفكر أن العالم العربى يرسف فى قيود الاستبداد والتخلف، فجعلها شغله الشاغل، لتخطى الحواجز وبناء إنسان جديد، اجتهد فى حل الإشكاليات بين الماضى والحاضر، بنى رؤاه على الوضعية المنطقية، نهل من الثقافة الغربية، كما فى «شروق من الغرب»، دون أن يغفل أهمية الثقافة الوطنية، فى «قيم من التراث» و«المعقول واللامعقول»، بل مزج بينهما فى «عربى بين ثقافتين» و«تجديد الفكر العربى».

يرصد زكى نجيب محمود ملامح التخلف الذى يشبه الموت السريرى، فى عالمنا العربى، ويحدد أسبابه ونتائجه، قائلا: نحن لا نخلق جديدا، ولا نُريد، بل يُسيء إلينا أن نسمع عن إنسان أو أُمة أنها تُحاوِل أن تخلق جديدا، لكن الحياة معناها القدرة على خلق الجديد، والإنسان حى بمقدار ما هو مُبدِع خلَّاق، والأُمة تسرى فيها الحياة بمقدار ما هى قادرة على الخلق والإبداع؛ ألا يأخذك يا صاحبى الهم والغم والحزن أن تتلفَّت فلا ترى إلا جدبا ونُضوبا وعُقما وجمودا؟ إننا لا نكاد نخلق شيئا واحدا جديدا فى العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن نتقدَّم به بين يدى الله يوم الحساب..
هنا يتساءل: لماذا لا نخلق ولا نبتكر؟.
ويجيب: لأننا لا نخلق ولا نبتكر؛ لأن لنا أخلاق العبيد، والخلق لا يكون إلا بعد سيادة وعِزة وطموح، عبيد فى فلسفتنا الأخلاقية والاجتماعية، وعبيد فى بِطانتنا الثقافية!.
ويوضح: نحن عبيد فى فلسفتنا الأخلاقية، لأن مقياس الفضيلة والرذيلة عندنا هو طاعة سلطة خارجة عن أنفسنا أو عصيانها، فأنت فاضل إن أطعت، فاسق إن عصيت.. ويستحيل أن تكون إنسانا حرًّا إلا إذا كان لك من نفسك مُشرِّع يهديك سواء السبيل، بغض النظر عما تُمليه السلطة الخارجة عن نفسك، وبغض النظر عن كل ما يترتب على عملك من ثواب أو عقاب، إذا أنت أحسنت إلى الفقير لأنك مأمور أن تُحسِن إلى الفقير، فأنت فى إحسانك عبدٌ يأتمِر بأمر سيده، وقد يكون هذا السيد رأس القبيلة أو رئيس الحكومة أو قانون الدولة أو أباك. لكن جوهر الأمر واحد فى جميع الحالات، أما إذا أحسنت إلى الفقير، بما تُمليه عليك نفسك من واجب يُحتِّمه العقل الخالص ومَنطِقه، كنت سيدا حرا..

ويضيف: إننا نحمل فى صدورنا أنفُس العبيد، لأن فلسفتنا الأخلاقية كلها قائمة على تنفيذ ما نُؤمَر به، سواء فى الأسرة أوالمجتمع، فالأسرة عندنا قائمة - من الوجهة النظرية على الأقل - على الاستبداد من صاحب الأمر والطاعة العمياء ممن يعتمدون فى حياتهم عليه، فالزوج صاحب الكلمة على زوجته، وللوالدَين سلطة التحكُّم فى الأبناء، أنظر إلى الناس من حوْلى فأُلاحِظ أنه بمقدار ما يكون للزوجة من مساواة بزوجها، وللأبناء حق مناقشة الوالدَين فيما يرغبون، تكون الأسرة بعيدة عن الكمال فى أعيُن الناس.. مثل هذه الأسرة شبيه بالدولة الاستبدادية على نطاق ضيِّق، فيها حاكم بأمره، وشعب يُطيع ولا يُناقِش.

ويتوقف فيلسوف الأدباء عند نقطة جوهرية طبعت المجتمعات العربية، فهى قائمة على أساس أن الناس درجات، وليس من اليسير على عقولنا أن تفهم ولا أن تُسيغ أن الناس قد تختلف أعمالهم مع تساويهم فى القيمة الإنسانية؛ فمن يحتل درجة أعلى له الحق- نظريا على الأقل- أن يستبِد بمن هو فى درجة أدنى، والعكس صحيح، أى أن من يحتل فى المجتمع درجة أدنى عليه واجب أن يذِل لمن هو أعلى منه، وإنه ليكفيك أن تُلقى نظرة على تتابُع الدرجات بين مُوظَّفى الحكومة، وشدة اهتمام المُوظَّفين بها.. إن النظر إلى الناس على هذا النسق ينطوى على عبودية وطغيان، عبودية لمن يقع فوقك، وطغيان بمن هو دونك فى سُلم البشر

ذات مرة رأى الدكتور زكى وزيرا انجليزيا يقف بين موظفيه، فى طابور شاى العصر بانتظار الحصول على قدح وقطعة كيك، وقال إن هذا المشهد صعب إن لم يكن مستحيل الحدوث فى بلادنا، لسببين، الأول أن وزيرنا لن يرضى لنفسه أن يتخلى عن التعالى، بالوقوف فى طابور الموظفين كغيره من البشر. الثانى والأشد وطأة، أنه لو افترضنا أن الوزير وقف بالصف، لوجدت حشودا من الموظفين أنفسهم يأبون عليه ذلك، ويتسابقون للتنحى له عن أماكنهم، أو دفع ثمن الشاى أو حمل القدح إلى حيث يطيب للوزير الجلوس!.

ثم يبدأ المفكر فى صوغ خريطة طريق للخروج من الجنة، جنة العبيط!.

M_ha7@hotmail.com

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية