تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. محمد الخشت > هل يمكن التحول من التطرف إلى التمدن؟

هل يمكن التحول من التطرف إلى التمدن؟

تثير مسألة إمكان انتقال القيادات العليا من التطرف إلى التمدن، اختلافا كبيرا بين المحللين، فبينما يرى البعض إمكان ذلك، يرى آخرون أنه غالبًا ما يكون تحوّلاً براجماتيًا مرحليًا من أجل التمكين، يعتمد على الانتقال بين المواقف والتكتيكات، وتوظيف استراتيجية التخفى وتغيير الأقنعة.

نعم، هناك نماذج ناجحة على مستوى الأفراد والقيادات الوسطى، حدثت فى مصر وبعض البلدان الأخرى مع الجماعات الأصولية، بعضها نجح، وبعضها كان تحوله مرحليًا ثم عاد وانقلب. لكن على مستوى القيادات الكبرى، يظل الأمر بحاجة إلى دراسات موسعة.

 

لذلك، لا بد من الانتقال من مربع الخلاف النظرى إلى مربع عملى واقعي، يتمثل فى البحث عن معايير للاختبار الحقيقى لمواقف القائد المتحول، وردود أفعاله على الشواغل الاستراتيجية والأمنية للدول المتحالفة تاريخيا مع دولته، وفحص مدى تنفيذه لمرجعية الدولة المدنية، دون التفافه حولها بلغة جديدة.

ـــ المأزق البنيوي: عقلية التنظيم داخل الدولة

يظهر المأزق حين يظل القائد يُدير الدولة بعقلية التنظيم: يُصمم على توظيف أدواته الأيديولوجية القديمة، ويحافظ على شبكة الولاءات، ويحوّل مؤسسات الدولة إلى واجهات شكلية تخدم مشروعًا طائفياً مقنّعًا. هكذا يُعاد إنتاج الدولة الموازية تحت غطاء الدولة المدنية. وربما أن أى محاولة لتفكيك الشبكة المتطرفة واستبدال بنية مدنية حيادية بها، تعنى صراعًا داخليًا محتمًا قد يصل إلى الانقلاب عليه من داخل جماعته نفسها؛ لأن أدوات التنظيم لم تُحل، بل أعيد توظيفها. خاصة وأن بعض هذه النوعية من الأنظمة تحمل نواة تفجرها عند مولدها!.

ـــ من العصبة إلى الدولة:

كما أشرنا فى مقال سابق، فإن فحص تحوّل القائد المتطرف إلى حاكم مدنى يمر بأربعة محاور رئيسة تصلح كمقاييس لاختبار مصداقية التحول:

1. عدم استخدام التقية من أجل التمكين

2. اكتساب الشرعية المدنية ونبذ العنف كأداة حكم

3. إجراءات العدالة الانتقالية

4. التحول فى المرجعية الفكرية والسياسية من العصبة إلى الدولة. وهو محور هذا المقال.

وفى هذا المحور، نجد أن أهم المعايير التى نقيس بها هذا التحول هو مدى تنفيذ قواعد الدولة الحديثة، والتخلى عن منطق العصبة والجماعة المغلقة التى تحتكر السلطة، وتختزل القرار فى ولاءات عقائدية وفقهية. لقد بُنيت المرجعية داخل التنظيمات المتطرفة على تصورات عقائدية تنفى التعدد، وتُقصى الخصم، وتحتكر الحقيقة، وتقوم على مفاهيم مثل: الفرقة الناجية، والحاكمية، والولاء والبراء، والإمامة السياسية، وتكفير المجتمع.

لذلك..
فإن أولى مهام القائد المتحول تتمثل فى تفكيك هذه المنظومة المرجعية، واستبدال منظومة مدنية تؤمن بالنسبية بها، وتعترف بالتعددية والمواطنة المتساوية للجميع، وترى الدولة عقدًا دستوريا وليست دعوة أو جهادا ضد غير المنتمين للجماعة.

ولن يكتمل الانتقال المدنى دون تفكيك أدوات التغلغل التنظيمى للجماعة فى مؤسسات الحكم، خاصة فى الأمن، والجيش، والقضاء، والإدارة المحلية. فالاعتماد على عناصر الجماعة وأهل الثقة بدلًا من أهل الكفاءة، يُعيد منطق العصبة داخل مؤسسات الدولة ويفرغ مفهوم المواطنة من مضمونه.

ـــ المؤسسات والسيادة القانونية

فى هذا السياق، تبرز أهمية تصور ماكس فيبر للشرعية القانونية، بوصفها أساس الدولة الحديثة، كدولة تقوم على القوانين والمؤسسات، لا على شخص الزعيم أو سلطة التقاليد. فقد ميّز فيبر بين ثلاثة أنماط من السلطة: التقليدية التى تستند إلى الأعراف، والكاريزمية التى تنبع من جاذبية القائد الاستثنائي، والقانونية العقلانية التى تقوم على نظام قانونى ومؤسسات رسمية. وفى هذا النمط، تؤسس الدولة الحديثة شرعيتها من خلال نصوص مكتوبة، وإجراءات واضحة، ومؤسسات محايدة. أما تجاهل هذه البنية، أو اختزالها فى أدوات شكلية، فيؤدى فى النهاية إلى إعادة إنتاج الاستبداد، حتى وإن حمل شعارات دينية أو ثورية. وهكذا، يتهاوى المشروع المدنى لأنه لم يستند إلى منطق الدولة الحديثة، بل إلى إعادة تدوير الهيمنة بأقنعة جديدة.

ولا يكتمل التحول الحقيقى دون إعادة بناء البنية المؤسساتية التى تدير الدولة.

فالدولة لا تُختزل فى النوايا أو الشعارات، بل تُبنى على نظام قانونى صارم ومؤسسات مستقلة. ولا تُدار الدولة المدنية بمنظور «الحق المطلق»، بل بمنظور الدستور والقانون العام وفلسفة المواطنة، وهو ما سبق أن فصلناه فى كتابنا (فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة).

ـــ حياد الدولة وإعادة تأطير الفعل السياسي

فى بنية التنظيمات المتطرفة، تُستبدل مؤسسات الدولة بهياكل موازية: الشورى تتحول إلى بيعة من التنظيم، والقانون تستبدل به فتوى، والسيادة تُنسب لله بمعناها الإقصائى التكفيري، والسلطات كلها تجتمع فى يد واحدة، فى حين أن الدولة المدنية تقوم على الفصل التام بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين الدعوى والسياسي، وبين الحزب والدولة، وبين الشخص والنظام. فالدولة الحديثة تفترض تمايز الحقول، ولا يمكن لحاكم مدنى أن يترك أدوات التنظيم تتحكم فى الحكم، أو يُخضع المؤسسات الرسمية للسمع والطاعة.

ومن دون هذا التحول، تبقى ادعاءات المدنية مجرد قشرة تُخفى تطرفًا دفينًا. خاصة أن الدولة ليست بنية تقنية فقط، بل ممارسة فعلية لمبادئ الدولة: القانون، والشرعية الانتخابية، والمصلحة العامة، والحياد مع مختلف الفئات، وممارسة العدالة كإنصاف مع جميع المواطنين بصرف النظر عن عقائدهم وأعراقهم.

وهنا تتجلى الفجوة بين عقلية قائد التنظيم وعقلية رجل الدولة.

وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إنّ الحديث عن تحوّل القائد المتطرف إلى حاكم مدنى يجب أن يخضع لاختبار صارم لمصداقية التحول. فالقائد الذى لا يفكك منطق العصبة ولا يتخلى عن أدوات التمكين الأيديولوجى والتنظيمي، إنما يعيد إنتاج الاستبداد والتطرف تحت عباءة مدنية. وحده القبول الصريح لأنظمة الدولة الوطنية، يُمثل علامة فارقة على جدية التحول.أما دون ذلك، فكل ادعاء بالتمدن لا يعدو أن يكون قناعًا مؤقتًا يخفى مشروعًا نكوصيًا ينتظر لحظة العودة.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية