تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. محمد الخشت > تعديل الجينات.. متى يصبح إنفاذا للعناية الإلهية؟

تعديل الجينات.. متى يصبح إنفاذا للعناية الإلهية؟

لا شك أن تعديل الجينات يمثل ثورة علمية كبري، لكنه يضع الأخلاق أمام اختبار غير مسبوق؛ لأنه يفتح إمكانية إعادة تشكيل الطبيعة الإنسانية التى خلقها الله تعالي، مما قد يكون خطوة نحو منطقة رمادية يتم فيها التلاعب بالطبيعة البشرية !

ونظرا لأهمية هذا الموضوع وخطورته، فقد سعدت بالمشاركة فى فاعليات مؤتمر المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقد بدولة الكويت، تحت رعاية ولى العهد الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، وبحضور وزير الصحة الكويتى د. أحمد عبدالوهاب العوضي، و د. محمد الجار الله رئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ود.عبد اللطيف المر أمين عام المؤتمر،  وعدد من كبار العلماء والخبراء الدوليين فى مجالات الطب والفكر والفقه.

 

ولنبدأ حديثنا فى هذا الموضوع بالنتيجة التى توصلنا إليها بشأن فحص تحرير الجينات البشرية من الناحية الأخلاقية والأنطولوجية، وفى المقالات التالية إن شاء الله تعالى نبرهن عليها فى ضوء علم المقاصد وفقه المآلات. فما تلك النتيجة؟

 من وجهة نظرنا أن استخدام تحرير الجينات للعلاج من مرض وراثي، هو إنفاذ للعناية الإلهية التى أرادت أن يكون الإنسان فى أحسن تقويم، وخلقت لكل داء دواء يمكن الوصول إليه بواسطة البحث العلمي.

أما استخدامها  لتصميم طفل مثالى فإنه يخرج عن هذا الإطار ويعد  تلاعبا بقوانين الخلق الحاكمة للوجود. كما إنه يحول الإنسان الى سلعة ومنتج حسب الطلب وليس كائنا حرا مكرما له قيمة وجودية متفردة، ومن ثم  يحط من الكرامة الإنسانية. 

فإذا تحولت التعديلات الجينية إلى خيار استهلاكى مثل تحسين الذكاء، والتحكم فى الطول والمظهر، فهذا  يعنى معاملة الإنسان كمنتج، ويهدد فكرة المساواة الجذرية بين البشر، ويخلق طبقات بيولوجية تحدد القيمة عبر الصفات الجينية المعدلة.

وهذا ما يتعارض مع تكريم الانسان المكلف فى التصور القرانى كقيمة وجودية متفردة: (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم)، كما يتعارض مع أهم الأوامر الاخلاقية التى حددها كانط فى كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق». يقول كانط: «افعل بحيث تُعامل الإنسانية، سواء فى شخصك أو فى أى شخص آخر، دائمًا كغاية فى ذاتها، ولا تُعاملها أبدًا كوسيلة فقط».

فكل فرد إنما يمثل فى ذاته مجموع الانسانية، وفى هذا السياق، يؤكد كانط أن قيمة الإنسان تكمن فى كونه غاية مطلقة، لا مجرد أداة لتحقيق أغراض الآخرين.

وهذا أيضاً ما أكّده القرآن الكريم، ولكن فى سياق آخر، عندما عادل النفس الفردية بمجموع الإنسانية: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا).

إن هذا التصور الذى قدمه القرآن، وذلك المبدأ الذى قدمه كانط، يلتقيان فى احترام الإنسان، والنظر إليه بوصفه قيمة غير مشروطة. ومن ثم، معاملة كل فرد باحترام ككائن حر وعاقل، وليس كمنتج صناعى .

وانطلاقا من ذلك يجب التمييز بين حالتين فى تحرير الجينات،

أولاهما: التدخل المباشر فى الحمض النووى للكائن الحى بهدف التعديل الوراثى العلاجى الذى يقتصر على الخلايا الجسدية ولا ينتقل أثره إلى النسل، ويستخدم فى علاج أمراض الدم الوراثية والسرطان وعلاج آلاف الأمراض الوراثية وغيرها. 

فهذا النوع يسير فى إطار احترام وتقدير الإنسان وحقه فى حياة بلا أمراض وبدون عجز، مما ينسجم مع الكرامة الانسانية التى أكدها القرآن، وهنا يلتقى القضاء على الأمراض وتحسين حياة المريض، مع العناية الإلهية.

أما ثانيهما: فهو التعديل الوراثى الموروث الذى يطول الخلايا التناسلية ويُحدث أثرًا دائمًا موروثًا عبر الأجيال، وهذا ما يطلق عليه «الأطفال المصممون» حيث يجرى التعديل الوراثى للأجنة لاختيار صفات مثل الذكاء أو الطول أو المظهر. ويفتح هذا النوع الباب للتمييز العنصرى وإساءة استخدام العلم فى تعديل الخط الجنينى القابل للوراثة، وهو تعدٍّ على قوانين الطبيعة، وعلى الكرامة الانسانية، ويعد تلاعبا بحدود الطبيعة الإنسانية، خاصة مع المخاطر والتبعات طويلة المدى وغير المعروفة؛

فالتعديل الجينى يعنى إحداث تغيير دائم فى الجينوم البشرى ينتقل للذرية. وأى خطأ أو تأثير جانبى غير متوقع يمكن أن يستمر لأجيال. على سبيل المثال، تعديل جين مرتبط بصفة معينة قد يؤثر بشكل غير مباشر على وظائف جينات أخرى أو يزيد قابلية الإصابة بأمراض مستقبلية.

والمشكلة أن العِلم لا يزال يجهل الكثير عن الترابطات المعقدة فى الجينوم، وبالتالى هناك مخاوف من ظهور عواقب غير متوقعة على المدى البعيد قد لا تتضح إلا بعد عقود أو فى الأجيال القادمة

.ولهذا تمت إدانة التجربة التى حدثت في  الصين عام 2018، والتى أنتجت توأمين معدلين جينياً لمقاومة HIV، بواسطة العالم الصينى «هى جيان كوي» رغم أن الهدف المعلن كان علاجيًا.

فقد اعتُبر ما فعله خرقًا خطيرًا للمعايير الأخلاقية والعلمية، نظرًا لأن التعديل طال الخط الجنينى القابل للوراثة دون إشراف مؤسسى أو دولي، مما زاد من القلق بشأن التبعات غير المتوقعة على الأجيال القادمة. 

إذن لابد من  التمييز بين الاستخدام العلاجى والتحسيني.

فالاستخدام العلاجى يعد إنفاذا للعناية الإلهية كما سبق القول. أما الاستخدام التحسينى فإنه يخرق مبدأ المساواة ويحوّل الإنسان إلى «منتج قابل للتعديل». ومن ثم قد يؤدى تحرير الجينات إلى خلق طبقات بشرية ذات «صفات محسنة»، مما يوسع الفجوة بين البشر، ويعزز العنصرية البيولوجية.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية