تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

موائد الرحمن فى رمضان

من أهم عادات المصريين التى تطورت تاريخيًا فى شهر رمضان إقامة موائد الرحمن فى الطرق والساحات وأمام المنازل لإفطارالغرباء وعابرى السبيل والفقراء أو ممن تتطلب أعمالهم بقاءهم خارج منازلهم فى وقت الإفطار. وهى عادة ترمز إلى معانى التراحم والتضامن الاجتماعى وحب الغير. ورغم أننا نطلق عليها اسم «موائد الرحمن» رُبما تيمنا بسورة «المائدة» فى القُرآن الكريم وتباركًا بأحد أسماء الله الحسنى، فإنه لمدة طويلة لم تكن هناك موائد بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما كان الناس يفترشون الأرض على الحصير أو الكليم، ويُقدم الطعام على السماط ـــ والتى تشير إلى ما يمد على الأرض ليوضع عليه الطعام ـــ ثم استُخدمت الطبالي، فالموائد فيما بعد.

تعود جذور هذه العادة إلى فترة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين. أما فى مصر، فقد كان أحمد بن طولون الذى تولى الحكم عام 868 ميلادية أول من اتبعها ودعا الأمراء وأعيان البلاد إلى إقامتها. وتطورت هذه العادة لتصبح أكثر انتشارا فى العهد الفاطمي، حيث أمر الخليفة العزيز بالله الفاطمى الذى حكم مصر خلال الفترة من 975-996 ميلادية بمد السِماط فى «الجامع العتيق» وهو الاسم الذى اشتهر به جامع عمرو بن العاص وقتذاك دلالة على انه أول جامع أنشئ فى مصر والقارة الإفريقية، ثم أقيمت مائدة أخرى فى جامع الأزهر.

كان يخرج من مطبخ قصر الخليفة أكثر من ألف قِدر يوميًا ـــ وهو الإناء المُستخدم لطهى الطعام ـــ لإطعام الفقراء والمحتاجين، وكان يكرر ذلك فى وقت السحور. وأنشأ العزيز بالله دار الفطرة التى كانت تقع خارج القصر قبالة باب الديلم، لتكون مسئولة عن إعداد وجبات الطعام التى تقدم خلال شهر رمضان والحلويات والكعك للتوزيع فى عيد الفطر.

واستمرت إقامة موائد الرحمن فى عهد المماليك، وأوقف بعض سلاطينهم أملاكا للإنفاق على هذه الموائد، ومن ذلك مثلا أن السلطان حسن بن قلاوون الذى أنشأ وقفًا لشراء اللحوم والخضر والأرز وغيرها من مستلزمات الطهى لإعداد الطعام للفقراء طوال الشهر.

استمر اهتمام الحكام بإقامة موائد الرحمن فى ساحات قصورهم وفى الأماكن العامة، وإن اختلف حجم المائدة وعدد المترددين عليها من فترة إلى أخري. وعلى سبيل المثال، ففى القرن العشرين، اهتم الملك فاروق بإحياء هذه العادة، فأقام مائدة إفطار فى الفناء الداخلى لقصر عابدين. وطلب من مديرى المديريات ـــ أى المحافظين ـــ إقامة موائد الرحمن فى عدد من المراكز التابعة لكل مديرية.

ونشرت جريدة المقطم فى 23 يوليو 1947، قرار مجلس مديرية الجيزة بإقامة سرادقات فى مراكز إمبابة والجيزة والحوامدية والبدرشين والصف والعياط، على أن يتم فى كل سرادق تلاوة القرآن الكريم قبل آذان المغرب يعقبها مد «موائد ملكية» لإطعام الفقراء. ونشر نفس العدد من الجريدة، انه فى مديرية المنيا تقرر إقامة سرادق ضخم ومائدة إفطار فى بندر المنيا بمدرسة المنيا الابتدائية اتسع لعدد «ألف فقير وفقيرة»، وتنظيم سرادقات وموائد مشابهة فى بنادر المديرية الأخرى اتسع كل منها لعدد 200 شخص.

وبعد قيام ثورة 1952، قامت هيئة التحرير ــ وهى التنظيم السياسى الذى أنشأته الثورة بعد حل الأحزاب ـــ بتنظيم موائد الرحمن فى المحافظات. وعلى سبيل المثال، نشرت جريدة المصرى بتاريخ 6 يونيو 1953 أن الهيئة نظمت إفطارا يوميا فى مدينة كفر الدوار، ويبدو أن الهيئة تعاونت مع الأسر الكبيرة فى تنظيم هذه الموائد فأشار الخبر إلى أن عائلة «والي» قامت بإعداد الموائد ليلتين. وفى خبر آخر فى نفس العدد، أشارت الجريدة إلى قيام هيئة التحرير بتنظيم مأدبة إفطار فى حى مصر القديمة حضرها كثير من الفقراء، وجدير بالذكر أن الخبر حرص على تسجيل حضور « كثير من المواطنين المسلمين والمسيحيين واليهود توثيقا للروابط بين أبناء هذه الطوائف». لم تقتصر موائد الرحمن على القاهرة، بل امتدت أيضا إلى المحافظات، وكان العمد ورؤساء الأسر الكبيرة يقيمون موائد الرحمن طوال الشهر. وفى الستينيات، تولى بنك ناصر إقامة العشرات من موائد الرحمن كأحد جوانب دوره الاجتماعي.

تبارى الموسرون والقادرون ماليًا على إقامة الآلاف من موائد الرحمن فى جميع محافظات الجمهورية دون استثناء، وفى محافظة القاهرة مثلا قدرت بعض الدراسات أن عدد هذه الموائد بلغ أربعين ألف مائدة. من أشهرها وأكبرها اتساعا وعددا، المائدة التى تقام فى ساحة استاد القاهرة، والتى ينظمها الأشراف المهدية وتتسع لنحو خمسة آلاف شخص، وقد قمت بزيارة هذه المائدة فى عام 2000 عندما كنت وزيرا للشباب وتناولت طعام الإفطار فيها.

من أشهر هذه الموائد أيضا، تلك الموجودة فى مساجد الأزهر والفتح ومصطفى محمود فى القاهرة، ومسجد السيد البدوى فى طنطا، ومسجد عبد الرحيم القناوى فى قنا. وفى بعض الأحيان يقوم المنظمون لهذه الموائد بإرسال وجبات الطعام إلى منازل كبار السن ومن لا تسمح ظروفهم بالحضور، وهى العادة التى انتشرت بشكل كبير فى فترة حظر إقامة هذه الموائد خلال جائحة كورونا، ونجد أيضا فى كثير من الشوارع، وعند إشارات المرور فى المدن وفى الطرق التى تربط بين القرى والمدن شبابا يوزعون أكوابا من العصير وأكياسا من التمر وزجاجات المياه على المارة وراكبى السيارات فى وقت الإفطار.

كما نظمت بعض الكنائس موائد الرحمن، كان من أولها فى عام 1969 المائدة التى نظمها القمص صليب متى ساويرس راعى كنيسة مار جرجس بميدان الأفضل بحى شبرا، وتردد عليها المسلمون والأقباط على حد سواء.

تظل موائد الرحمن فى مصر علامة على التكافل الاجتماعى والتضامن والتراحم بين الناس.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية