تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
صراع الهُويات فى أرض فلسطين
أدى الهجوم العسكرى الإسرائيلى الوحشى على قِطاع غزة والضفة الغربية واستمرار المُقاومة الفلسطينية إلى إعادة طَرح أسئلة لم تعُد مُثارة بشكل مُلح مُنذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. من هذه الأسئلة كيف نشأت إسرائيل عام 1948؟ وما هى الأُسس الأيديولوجية والقانونية والأخلاقية التى استندت إليها؟ ولماذا لم تنشأ دولة فلسطينية وقتذاك؟
فى هذا السياق، تابعنا على شاشات التليفزيون حوارات حول نبوءة أشعياء التى أشار إليها نيتانياهو فى خِطابه إلى الإسرائيليين فى 25 أكتوبر 2023، وعن مضمون الأيديولوجية الصهيونية وعلاقتها بالدين اليهودي، وتاريخ القضية الفلسطينية من صدور إعلان بلفور عام 1917 وحتى الآن. إن مُناقشة هذه الأسئلة فى غِمار أحداث غزة الدامية، تُشير إلى معنى أعمق يتجاوز مُتابعة الأحداث الجارية وتطوراتها وهو صراع الهُويات على أرض فلسطين. فنحنُ لا نستطيع أن نفهم إصرار الفلسطينيين على مُقاومة الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية على مُقدراتهم، أو أن نفهم حجم العُنف الذى مارسه الجيش الإسرائيلى والمُستوطنون دون معرفة جذور هذا الصراع. فالمُجتمع الإسرائيلى تَكون تاريخيا عن طريق الهجرة بمُغادرة اليهود الدول التى وُلِدوا فيها، والقدوم للاستيطان على أرض فلسطين.
ويكفى للتدليل على ذلك، المقارنة بين تاريخين، ففى عام 1917 كانت أغلبية سُكان فلسطين من العرب المُسلمين والمسيحيين، وبلغت نسبة اليهود 4% فقط. تغير هذا الوضع بشكل واضح فى السنوات الثلاثين التالية، وحسب قرار التقسيم الذى أصدرته الأمم المُتحدة فى عام 1947، فقد زادت نسبة اليهود إلى 32% مُقابل 68% من العرب. جاءت هذه الزيادة، بفضل دعم سُلطات الانتداب البريطانى التى شجعت الاستيطان اليهودي، وكذلك هجرة الآلاف من اليهود الألمان هربًا من جحيم النازي.
يعتبر معرفة الطريقة التى نشأت بها إسرائيل عن طريق الهجرة والاستعمار والاستيطان، هى مفتاح فهم الكثير من الظواهر فى إسرائيل. وقد قضيتُ سنوات طويلة فى دراستها، كانت ثمرتها كتابا لى بعنوان تكوين إسرائيل: دراسة فى أصول المجتمع الصهيونى صدر عن دار الهلال عام 1969. وأذكر أيضًا الدراسة الضخمة التى قُمت بتحريرها مع الأستاذ السيد ياسين بعُنوان الاستعمار الاستيطانى الصهيونى فى فلسطين، وأصدرها معهد البحوث والدراسات العربية فى مُجلدين عام 1975.
تتسم المجتمعات والدول التى تتكون من خلال الهجرة والاستيطان بعدة سمات.أبرزها، العلاقة بين المهاجرين أو المستوطنين من ناحية، والسكان الأصليين للبلد من ناحية أخرى، وبالذات فى المراحل الأولى من النشأة. فالمستوطنون فى حالة فلسطين يعرفون أنهم وُلدوا وعاشوا لفترة فى بلاد أُخرى وحملوا جنسياتها، ثم استوطنوا هذه الأرض تحت تأثير الأيديولوجية الصهيونية. ويعرفون أيضا، أن هذه الأرض يسكُنها أُناس آخرون وأنهم تمكنوا من الاستيلاء والسيطرة عليها بالقوة وفى ظروف إقليمية ودولية مواتية.
فى حالة فلسطين، تراوحت نظرة المستوطنين إلى الفلسطينيين بين الإنكار والإقصاء. فلمُدة، كان شِعار تيودور هيرتزل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، شعب بلا أرض لأرض بلا شعب، ورغم أنه عرف جيدًا أن هُناك سُكانا فى هذه الأرض اعترف بوجودهم فى مُذكراته ودعا إلى ضرورة دفعهم خارج فلسطين، استمر فى الترويج لأكذوبة أنها أرض خاوية من السكان. وفى الشهور السابقة على إعلان قيام إسرائيل فى مايو 1948، مارست المُنظمات العسكرية الصهيونية سياسات ترويع الفلسطينيين فى القُرى والمُدن لإجبارهم على مُغادرة ديارهم. وشهدت هذه الفترة عددًا من المذابح أشهرها دير ياسين. ومنها أيضًا ما حدث فى قرية الطنطورة التى قام بها لواء ألكسندرونى بالجيش الإسرائيلى عام 1948 وعرف العالم بتفاصيلها المُوجعة من خلال فيلم وثائقى أخرجه ألون شوارتز عام 2020وتضمن مُقابلات مع بعض الجنود الذين شاركوا فى العملية، وقرويين فلسطينيين نجوا من المذبحة. وأثار الفيلم وقتها ضجة كبيرة فى إسرائيل والعالم كله.
كان الهدف وقتذاك السيطرة على أكبر قدر من أراضى فلسطين مع إفراغها من سُكانها العرب. وهو هدف لا يزال قائمًا لأن استمرار وجودهم يذكرهم دوما بحقيقة انهم أجانب وغرباء على هذه الأرض، ويمثل عقبة أمام هدف الصهيونية وهى إنشاء دولة خالصة لليهود. وتنبنى سياسات الإنكار والإقصاء والتهجير على مفاهيم عُنصرية واستعلائية بلورها مفكرو الصهيونية، استنادا إلى بعض النصوص الدينية فى التوراة كالحديث عن اليهود باعتبارهم شعب الله المختار، واعتبار أن كل يهود العالم ينتمون إلى عرق نقى واحد.ويترتب على ذلك، التمييز بين اليهود والأغيار أى كل من ليس يهوديا.
وظفت الصهيونية العبارات التوراتية التى أشارت إلى الاختيار والتفوق والنقاء العنصرى لتجعل منها الأسس الأيديولوجية للحركة الصهيونية والدعوة إلى تجميع يهود العالم فى وطن واحد هو فلسطين. ومن ثم يتحول الدين اليهودى إلى قومية وأيديولوجية سياسية، بحيث تصبح اليهودية الوجه الدينى للصهيونية، والصهيونية الوجه السياسى لليهودية. وفى ضوء ذلك، يمكن فهم إصدار إسرائيل قانون العودة عام 1950 الذى يعطى لليهود فى أى دولة حق الهجرة والاستقرار فى إسرائيل ونيل جنسيتها فورا. وفى عام 1970، تم توسيع مجال الأفراد الذين ينطبق عليهم القانون ليشمل الأشخاص من ذوى الأصول اليهودية وأزواجهم وأولادهم. ووفقًا لذلك، فإسرائيل ليست دولة لمواطنيها فقط، وإنما دولة كل يهود العالم. إذن، الصراع العسكرى الدائر على أرض فلسطين بين قوة الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية وقوة المقاومة الفلسطينية، يرتبط بصراع أعمق حول هوية الأرض والبشر، فإسرائيل لا تسعى فقط للسيطرة على أرض فلسطين، وإنما لتغيير هويتها التاريخية مستغلة فى ذلك عِلم التاريخ والآثار وتغيير أسماء المدن والشوارع والأحياء. فالهدف، هو التهويد.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية