تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
النظام الدولى فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكى الجديدة
ليس من المبالغة القول إن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها البيت الأبيض في 4 ديسمبر 2025، تمثِّل نقطة تحول نوعية في الرؤية الأمريكية للعالم، فانتقدت مفهوم العولمة وأعطت الأولوية في سُلم مُهدِّدات الأمن القومي للإصلاح في الداخل الأمريكي في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا ومكافحة الهجرة والمخدرات والجريمة. كما أولت الأهمية القُصوى من الناحية الجغرافية لمنطقة جوارها المُباشر في الأمريكتين، وتلاها في الترتيب آسيا فأوروبا فالشرق الأوسط وإفريقيا.
انطلقت الاستراتيجية من أن الدولة القومية هي قاعدة النظام الدولي المعاصر، وأن السياسة الخارجية لأي دولة تسعى لحماية مصالحها الحيوية، وانتقدت العولمة على أنها فكرة جوفاء تم صياغتها لخدمة مصالح الشركات متعددة الجنسيات وليس الدول والشعوب. وبهذا المعنى، فإن العلاقات الدولية هي تبادل للمصالح في إطار صفقات وتعاملات بين الدول، فالمصالح وليس الأيديولوجيات أو القيم هي المحرك الرئيسي في رسم السياسات وتحديد المواقف. تؤكد الاستراتيجية أن العهد الذي تتحمل فيه أمريكا العبء الأكبر من كلفة التحالفات والتعهدات الدولية قد انتهى، وأنه من الضروري مشاركة الحلفاء والشركاء في تحمل الأعباء. لم تركز الاستراتيجية على الموضوعات المتصلة بنشر الديمقراطية والليبرالية في العالم، وانصب اهتمامها على سيادة الدول والمصالح الاقتصادية.
تقطع الاستراتيجية شوطًا كبيرًا في «أمننة الاقتصاد»، فأكدت دور العوامل الاقتصادية في استعادة العظمة الأمريكية من خلال تحفيز المصانع الأمريكية التي انتقلت للعمل خارج البلاد للعودة إلى بلادها، وزيادة الاستثمارات في المجالات التكنولوجية الحاكمة في السباق بين الدول الكبرى، وتقليل الاعتماد على الخصوم. في هذا السياق، تبلورت لغة الاستراتيجية والتي هي رؤية الرئيس ترامب للقوى الكبرى في النظام الدولي والعلاقات فيما بينها. تغير المنهج واللهجة عند تناول الحلفاء الأوروبيين، فلم تتعامل معها باعتبارها أولوية أمنية رئيسية للولايات المتحدة أو أنها ميدان المنافسة الاستراتيجي في العالم، بل وجهت للاتحاد الأوروبي انتقادات لاذعة باعتباره كيانا «ضعيفا أو في حالة تراجع». أكدت دور الدول وذلك في سياق رفضها لأي تنظيمات أو كيانات عبر قومية تعلو سلطة الدولة. ودعت الأوروبيين إلى تحمل مسئولية الدفاع عن بلادهم، ورفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج القومي الإجمالي. وذلك من مُنطلق منع وقوع القارة تحت هيمنة قوة معادية. وفي نفس الوقت رفضت الاستراتيجية سياسة التوسع المستمر لحلف الناتو.
كما انتقدت بشدة سياسات فتح الباب أمام المهاجرين الذين يمثلون خطرًا على ثقافة أوروبا وتهديدًا لهويتها، وأنه في بعض المناطق لم يعد بالإمكان التعرف عليها كجزء من الحضارة الغربية، فأوروبا تواجه تحدي طمس حضارتها التقليدية. ومن ثَم، فإن عليها إحياء ثقافتها وهويتها. وهو ما دعا الاتحاد الأوروبي وعددا من القادة الأوروبيين إلى اعتبار الإستراتيجية خطوة تصعيدية وغير مسبوقة في العلاقات عبر الأطلسية، لأنها تضمنت لغة هجومية تشكك في الاتحاد الأوروبي وهويته.
وعلى صعيدٍ آخر، تغيرت أيضًا لهجة ومنهج الحديث عن الصين. فلم تشر الاستراتيجية إلى الصين كخصم صريح، كما فعلت سابقتها التي صدرت في عهد الرئيس جو بايدن عام 2022، ولكنها ركزت عليها كمنافس اقتصادي تكنولوجي، وعلى قضايا الردع الاستراتيجي في آسيا خصوصًا المتعلقة بتايوان. ركزت الاستراتيجية على إعادة التوازن في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، على أساس مبادئ العدالة وتقليل الاعتماد عليها في سلاسل الإمداد الاستراتيجية، وتحديدًا في المجالات التكنولوجية الحساسة.
أكدت الوثيقة استمرار السياسة الأمريكية في الاعتراف بالصين الواحدة، ورفض أي قرار أحادي من جانب حكومة تايوان. وفي نفس الوقت، أعطت أولوية كبرى لاستخدام الردع في النزاع بين الصين وتايوان، وذهبت إلى ضرورة الحفاظ على التفوق العسكري الأمريكي، وعلى حرية الملاحة في منطقة الإندوباسيفيك، مع مطالبة الحلفاء الآسيويين كاليابان وكوريا الجنوبية بدور أكبر في الدفاع عن المنطقة. وعمومًا، لم تتسم عبارات الاستراتيجية في تناولها للصين بالغلظة أو الحدة، وتبنت نهجًا أكثر واقعية وعملية عبر التركيز على مصالح محددة.
وتوافقاً مع ذلك، جاء رد المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الصينية، مرحبًا بالاستراتيجية، مؤكدًا أن التعاون هو الطريق الصحيح للعلاقات بين البلدين، وأن المواجهة ضارة للطرفين. وعلى نفس المنوال، خففت الاستراتيجية من لغة المواجهة التقليدية مع روسيا مقارنة بنسخ سابقة منها، فلم تصفها بأنها قوة «مراجعة» تسعى لتغيير النظام الدولي، بل أكدت السعي إلى تحقيق عناصر السلام والاستقرار الاستراتيجي في العالم، بدلًا من المواجهة وتصوير روسيا كعدو أساسي، وهو التوجه الذي رحب به المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية وخصوصًا حذف الإشارة إلى روسيا «كتهديد مباشر»، واعتبرها خطوة إيجابية نسبيًا. في هذا الإطار، أكدت الاستراتيجية الدور الأمريكي في التفاوض لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بدلًا من دعم استمرار الحرب والقتال.
تعد استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025، بمنزلة تغيير للنهج التقليدي الأمريكي تجاه العالم التي طالما أعطت الأولوية للتحالف الأطلسي. كانت الأولوية في هذه الوثيقة للشأن الداخلي، ومبدأ «أمريكا أولًا»، ولجوارها الجغرافي المُباشر الذي يؤثر عليها.
وانطلاقًا من ذلك، سعت إلى تخفيف الأعباء الخارجية، وطالبت الحلفاء الأوروبيين والآسيويين بتحمل مسئولياتهم الدفاعية، وركزت في علاقتها مع الصين على تنظيم مبادئ المنافسة الاقتصادية على أساس المصالح المتبادلة، ومع روسيا على تحقيق الاستقرار الاستراتيجي العالمي، وإنهاء حربها مع أوكرانيا من خلال التفاوض، ومع بقية دول العالم علي أساس تعظيم المنافع الأمريكية وما تستطيع أي دولة أو منطقة أن توفره لها حتى تتمكن من الحفاظ على موقعها على قمة النظام الدولي واستقرار سيطرتها العالمية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية