تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
المصريون عظماء دولة التلاوة
شهر رمضان هو شهر تنزيل القرآن، وفيه يزداد تلاوته والاستماع إليه. وحسب قول الشيخ على جمعة مفتى الجمهورية سابقا فإن المقارئ المصرية جزء لا يتجزأ من التراث المصري، حيث قالوا قديمًا: «إن القُرآن نزل فى مكة، وطُبع فى إسطنبول، وقُرئ فى مصر». لذلك، فإن حلول شهر رمضان لهو مناسبة لاستجلاء دور قراء القرآن بمصر فى حفظ كتاب الله وفهمه، وجهودهم فى خدمة علم القراءات، خاصة أن لمصر مكانة رائدة فى هذا المجال، ولأن القراء المصريين هم الأكثر تأثيرا وانتشارا،وتاريخيا كانوا أكثر من اهتموا بعلم القراءات تدقيقا وتأليفا وأداءً.
تمت قراءة القرآن وشرحه بمصر فى القرن الأول الهجرى على يد الصحابة الذين قدموا إليها كعقبة بن عامر الجهني، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وأبو ذر الغفاري. ومع نهاية هذا القرن، ظهرت مدرسة مصرية فى قراءة القُرآن، كان من سماتها أنها أتاحت الفرصة لقراءات المدارس الأخرى،التى ظهرت فى مكة والمدينة والشام.
وفى القرن الثانى الهجري، برزت إسهامات الشيوخ المصريين، وعلى رأسهم الليث بن سعد أحد أعظم فقهاء عصره قاطبة، وسقلاب بن شيبة أبو سعيد المصري، والإمام ورش واسمه عثمان بن سعيد المصرى الذى سافر إلى المدينة لتعلم القراءة على يد نافع المدني، وتولى رئاسة مشيخة عموم المقارئ بالديار المصرية التى أنشئت عام 117هـ، ومقرها جامع عمرو بن العاص.
وفى القرن الثالث، ظهر داود بن أبى طيبة المصري، وأبو الأزهر عبدالصمد بن عبدالرحمن العتقى المصري، وأبو يعقوب يوسف بن عمرو الأزرق تلميذ الإمام ورش. وفى القرن الرابع، برز أحمد بن هلال الأزدى المصري، ومظفر بن أحمد بن حمدان المصري، وأحمد بن نصر بن منصور الشذائى المصري. وكان لهؤلاء صيت واسع فى مُختلف الأقطار الإسلامية.
تميزت المدرسة المصرية فى القراءة، بأنها امتداد لمدرسة علماء المدينة، والتى هى أقرب القراءات إلى الأصل، وأرست قواعد القراءة حسب قراءة الإمام ورش، التى سادت فى مصر وانتقلت إلى بلاد أخرى. لم يكتف القراء المصريون بتلاوة القرآن، بل إنهم حفظوا قواعد القراءة وأحكامها فى عديد من المؤلفات التى تناولت موضوعات مثل «تغليظ اللام وترقيقها»، وطرق نطق «الحروف»، و«الاختلافات السبعة فى القراءات» وخصوصا فى قراءة «إنّ» و«أنّ»، المكسورة والمفتوحة، و«القراءات الشاذة».
وفى مصر الفاطمية (358-567ه)، اهتم السلاطين بالقراءة وفقا لرواية ورش، وأصبحت مدينة الفسطاط محطة لجذب طلاب تعلم القراءات من كل البلاد الإسلامية، خصوصا بلاد المغرب والأندلس والسودان، الذين اجتمعوا فى «جامع القراء» الذى اكتظ بحلقات تعليم الإقراء، ووقع هذا الجامع بجوار جامع عمرو بن العاص.
ومع بداية القرن الخامس، أنتجت مدرسة القراء المصرية عددا من أعلام القراءة والتجويد وفقا لرواية ورش الذين ذاع صيتهم، كان منهم احمد بن سعيد بن احمد بن نفيس وكنيته أبو العباس الذى تولى رئاسة الإقراء. واستمر ازدهار مدرسة القراءة المصرية فى القرن السادس الهجري، وكان من أعلامها: ابن الخشاب، وأبو الحسن المصري.
وإلى جانب هذه الطرق فى تلاوة القرآن، استحدث بعض القُراء قراءة الجوق (أو الجوقة)، التى تشير إلى قيام مجموعة من الأفراد يتراوح عددها من ثلاثة إلى عشرة بقراءة القرآن بالألحان مستخدمين فى ذلك المقامات لإطراب مستمعيهم، فازداد إقبال عوام الناس عليهم، وتعلقهم بهم.
انتشرت هذه القراءة فى القرنين الثامن والتاسع الهجري، وكان لكل شيخ من قراء الجوق تلاميذه الذين تعلموا طريقته ونشروها. وشارك قراء الجوق فى الاحتفال بالمناسبات الدينية كمولد النبي، ومراسم العزاء التى أقامها فى فترة حُكم المماليك البُرجية حتى هزيمة قائدهم طومان باى على يد القوات العثمانية فى معركة الريدانية عام 922هـ. ونظرا لتجاوزات قراء الجوق وإمعانهم فى استخدام الألحان والأنغام على حساب التجويد، أنكر كبار الشيوخ والفقهاء هذه الطريقة فأمر المحتسب عماله بمنع قراءة الجوق، وانصرف الناس عنها.
هكذا، استمرت مصر لعدة قرون مركزا للإقراء وتعليم علم القراءات، وقدم إليها الساعون لمعرفة قواعد هذا العلم وأحكامه. لم تكن هذه المدرسة منغلقة على نفسها، وتفاعلت فى بدايتها مع المدارس الأخرى، حتى طور «ورش» طريقته المتميزة التى تمتعت بالحَظوة لدى القراء المصريين. واستمر هذا الوضع حتى دخول العثمانيين مصر، ففرضوا أن تكون القراءة فى المساجد والمقارئ وفقا لرواية حفص عن عاصم ومنع أى قراءات أخرى، وذلك التزاما منهم بمذهب الإمام أبى حنيفة النعمان.
كما سافر كبار المشايخ من مصر للإقراء فى بلاد أخرى، ومن ذلك الشيخ أبو الحسن التميمى الأنطاكى الذى قدم إلى مصر من أنطاكيا فاستقر بها، وأصبح أحد أعلام قرائها. وعندما طلب الخليفة المستنصر بالله الأندلسى شيخا ليقرأ على الناس، وقع الاختيار عليه، فسافر فى عام 352هـ وأصبح شيخ الأندلس وسندها فى الإقراء.
استمرت هذه التقاليد حتى ظهور المدرسة الحديثة فى القراءة فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، على يد الشيوخ حسن الصواف ومحمود القهاوى وحنفى برعى وأحمد ندا، ويعتبر الأخير من أشهر مقرئى هذه الفترة، فقد جمع بين أحكام التلاوة وقواعد التجويد والصوت الشجى العذب، وصولا إلى قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت (1882-1950) وكان صوته وهو يتلو القرآن هو أول ما بثته الإذاعة المصرية عام 1934. ارتفعت هذه الحناجر الذهبية بشكل طبيعى وبدون ميكروفون لتُدخل سامعيها فى عالم تسمو فيه نفوسهم، عالم فيه عبادة وروحانية، وتفكير وتدبر، واستمتاع وطرب.
ومازال لدور المصريين فى دولة التلاوة بقية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية