تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. علي الدين هلال > الكواكبى وإصلاح الفِكر الدينى والسياسى

الكواكبى وإصلاح الفِكر الدينى والسياسى

فى مثل هذه الأيام منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن، وتحديدًا فى 9 يوليو 1855، وُلد فى حَلب الشهباء واحد من الرجال الذين شكلت آراؤهم أحد أركان الفِكر العربى الحديث، ألا وهو عبد الرحمن الكواكبى. ورغم أنه تُوفى مُبكرًا فى السابعة والأربعين من عُمره وهو فى قِمة عطائه الفكرى، فقد أثرت أفكاره على أجيال مُتلاحقة من العرب وأصبحت جُزءا من ثقافتهم وتفكيرهم.

وُلد عبد الرحمن الكواكبى فى أُسرة تنتسب إلى آل البيت وتلقى تعليمه فى مجالات الشريعة والقانون والحساب والأدب بالمدرسة الكواكبية فى حلب التى قام والده بالتدريس فيها. اعترك الحياة العامة وهو فى مُقتبل العشرينيات فعمل بالقضاء الشرعى وأصبح رئيسًا لإحدى محاكمه، وعمل بالمحاماة مُدافعًا عن الفُقراء والضُعفاء، كما اشتغل بالصحافة وأصدر جريدتى الشهباء والاعتدال وانتقد فى مقالاته مساوئ الحُكم العثمانى ودافع عن الحُرية فاضطهدته السُلطات وضيقت عليه الخناق مما دفعه للهجرة إلى مِصر عام 1898 حيث أقام بها حتى وفاته عام 1902.

كَتب الكواكبى مئات المقالات وألقى عشرات المُحاضرات وترك كتابين هُما أم القُرى الذى صدر عام 1898و«طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى صدر عام 1899. كانت القضية المُلحة التى حركت عقله وأثارت تفكيره هى تفسير أسباب تخلُف المُسلمين والعرب وما الذى أدى إلى تراجُعهم عن موكب الحضارة والتقدُم. وكانت الإجابة الرائجة بين الشيوخ والوُعاظ فى هذا الوقت هى أن المُسلمين تركوا دينهم فسقطوا فى مهاوى التخلُف. وهى الحُجة التى ما زالت شائعة فى بعض أوساطنا حتى اليوم. ناقش الكواكبى فى مُقدمة كتابه عن طبائع الاستبداد هذه الحُجة فيما يُشبه محاورة بينه وبين القائلين بها فكتب القائل مثلا: إن أصل الداء التهاون فى الدين، لا يلبث أن يقف حائرًا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس فى الدين؟ والقائل إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتًا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يشكُل عليه (أى يصعُب عليه فهم) وجود الاختلاف بين العُلماء بصورة أقوى وأشد... وهكذا يجد نفسه فى حلقة مُفرغة لا مبدأ لها (يقصد لا بداية لها)، فيرجع إلى القول: هذا ما يُريده الله بخلقه. وهو فى اعتقاد الكواكبى تهرُب من البحث عن تفسير لأصل الداء.

لم يقبل الكواكبى بهذه الحُجة واعتبر أن المفاهيم والممارسات الذائعة عن الإسلام هى أحد أسباب التخلُف. ركز الكواكبى على ضرورة الاهتمام بجوهر الدين ومقاصده، وعبر عن هذه الفكرة بأقوى العبارات فكتب عن الدين «الذى ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القُرآن ودفنوها فى قبور الهوان. الدين الذى فقد الأنصار والأبرار وحكماء الأخيار فسطا عليه المُستبدون واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعًا».

ما هو أصل الداء إذن؟ يُجيب الكواكبى أنه بعد طول بحث وتفكير تمحص عندى أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسى، وأن دواءه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقر فكرى على ذلك بعد بحث ثلاثين عامًا. والاستبداد عنده هو آفة فردية واجتماعية وسياسية وجوهره غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة ويربطه بمفاهيم الطُغيان والتجبُر والتعسف والتسلط والحُكم المُطلق. وهو السبيل لخراب الأفراد والمُجتمعات فحسب قوله هو «وباء دائم بالفتن، وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق مُتواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعُمران، وخوف يُقطع القلوب، وظُلام يُعمى الأبصار، وألم يُفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهى».

ويُضيف الكواكبى أن الاستبداد ليس مرتبة واحدة ويرى أن أعلى مراتبه وأكثرها ضررًا هى حكومة الفرد المُطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سُلطة دينية. أى الحاكم الذى يجمع بين السُلطات السياسية والعسكرية والدينية، ويبدو أنه كان يُشير بشكل غير مُباشر إلى وضع الخلافة العُثمانية.

وكما ذكرت، فإن الكواكبى لم يقصر تعريفه للاستبداد على الاستبداد السياسى بل رفضه فى كُل أشكاله مثل استبداد الأب أو الزوج فى الأُسرة، واستبداد الرؤساء الدينين بأتباعهم، واستبداد النفس على العقل أى غلبة المشاعر والأهواء على الحكمة، واستبداد الجهل على العلم أى أن تكون الآراء الجاهلة المُنتشرة أهم من رأى العلماء، مُشيرًا إلى أن الله تجلت نعمته فى «خلق الإنسان حُرًا قائده العقل».

ما هو سبيل التقدم إذن؟

كان الكواكبى رجُل إصلاح ولم يكن داعيًا إلى ثورة أو انقلاب، بل آمن بدور التعليم والمعرفة وذلك لأنه إذا ارتفع الجهل وتنور العقل، زال الخوف فالعلوم... تُكبر النفوس، وتُوسع العقول، وتُعرف الإنسان ما هى حقوقه وأنه يسعى العُلماء فى تنوير العقول، ويجتهد المُستبد فى إطفاء نورها.

مست هذه الأفكار شغاف قلوب وعقول المصريين فى مطلع القرن العشرين، وكانت له مكانة كبيرة بينهم. لذلك، فعندما توفى أمر الخديو عباس حلمى الثانى ببناء ضريح له عند سفح جبل المُقطم ونُقشت على جداره أبيات الشعر التى رثاه بها شاعر النيل حافظ إبراهيم وهى «هُنا رجل الدُنيا هُنا مهبط التقى.. هنا خير مظلوم هنا خير كاتب... قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا عليه.. فهذا قبر الكواكبى»، ثُم نُقل ضريحه فيما بعد إلى منطقة باب الوزير.

أليس من الغريب أن رجُلاً كهذا دعا إلى تنوير العقول ونشر المعرفة والعلم أن تختفى الإشارة إلى اسمه وأفكاره من مُقررات مناهج التعليم المصرية، وأن يُكمِل الشباب مرحلة التعليم الثانوى دون أن يعرفوا أو يسمعوا عن اسم الشيخ عبد الرحمن الكواكبي؟.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية