تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
العرب و ترامب
كتبت الأسبوع الماضى عن السمات الخاصة بنهج الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، فى العمل السياسي، وأنه يتصف بالمُباغتة وطرح أفكار غير واقعية وغير ممكنة التنفيذ ومُخالفِة للقوانين والأعراف بدعوى أنها «من خارج الصندوق». وأدى ذلك إلى إثارة جدل كبير بشأن ما حدث بخصوص قناة بنما والعلاقة مع كندا والمكسيك وكولومبيا وجنوب إفريقيا، والتهديدات الموجهة لدول الاتحاد الأوروبي، وفرض عقوبات على العاملين بالمحكمة الجنائية الدولية. كما اقترح تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن بدعوى إعادة تعميرها ثم تراجع عنه بعد أيام بدعوى أنه «ليس فى عجلة من أمره».
وأعاد طرح الفكرة يوم 9 فبراير مُضيفًا أنه ملتزم بشراء غزة وإعادة تعميرها وأنه يُمكن أن يُعطى دولًا أخرى بعض مناطقها لتعميرها تحت إشراف أمريكا. ثم التراجع عن فكرة الشراء وأعلن أن أمريكا سوف تمتلكها وتديرها.
فماذا يقصد ترامب من طرح هذه الأفكار غير الواقعية وتغيير ما يطرحه من وقت لآخر؟
ترامب يعرف جيدًا ما يريد أن يحققه. وعندما يطرح فكرة تبدو غير ممكنة، فإنه يهدف بذلك أن تصبح موضوعًا للنقاش باعتبارها أحد الاختيارات المتاحة وإن بدت صعبة المنال. وعندما يُرد عليه بأنها فكرة غير واقعية، يُسارِع بأن يطلب تقديم البديل. ومن ثم، يضع الطرف الآخر فى موقف الدفاع، ويجعله يفكر وفقًا لما يطرحه من آراء واقتراحات. وخلال ذلك يتم التعود عليها وقبولها كأحد الحلول لقضية ما. وهناك هدف آخر من طرح هذه الأفكار، وهو تشتيت الانتباه، وصرفه عن القضايا الرئيسية والملحة.
كان الهدف من طرح فكرة «نقل» سكان غزة حسب تعبير ترامب، هو شغل مصر والأردن وسائر الدول العربية عن القضايا الأكثر جدية وأهمية، مثل تطبيق المرحلتين الثانية والثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، وأن إسرائيل لم تحقق أهدافها من الحرب وهى القضاء على حركة حماس واستعادة المحتجزين، وإجراءات إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، ووضع الأسس لإقامة دولة فلسطينية. فهم العرب الفخ الذى تمثله أفكار ترامب، ونجحت الحكومات والشعوب العربية فى التعامل الصحيح معها. ويعود هذا النجاح أولًا إلى الموقف الحاسم والصارم الذى تبنته كل من مصر والأردن فى رفض فكرة التهجير من أساسها، باعتبارها تصفية للقضية الفلسطينية، وأن الفلسطينيين لا يرغبون فى مغادرة بلادهم وأنهم عاشوا خمسة عشر شهرًا يعانون من ويلات الحرب وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة دون أن يغادروا مساكنهم، فكيف يمكن أن يقدموا لإسرائيل سِلمًا ما عجزت عن تحقيقه حربًا. أضف إلى ذلك أن البلدين لا يقبلان تهجير الفلسطينيين إليهما لأن المقصود بالنقل، الذى اقترحه ترامب، فى حقيقة الأمر هو «التهجير القسري».
ويعود ثانيًا إلى التضامن السياسى العربى الذى ظهر فى اجتماع وزراء خارجية دول مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر، وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والأمين العام للجامعة العربية يوم 1 فبراير 2025، والبيان القوى الذى صدر عنه وتمت صياغته فى خطاب وقع عليه وزراء خارجية الدول الخمس وتم إرساله إلى وزير الخارجية الأمريكي. وتلا ذلك، صدور بيان مماثل عن وزارة الخارجية السعودية، ربط بين إقامة علاقات مع إسرائيل وموافقة الأخيرة على إنشاء الدولة الفلسطينية على الأراضى المحتلة فى يونيو 1967. تنوعت ردود الفعل العربية، فاجتمع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية مع ملك الأردن، وتمت اتصالات عديدة بين رؤساء الدول ووزراء الخارجية، ليس فقط فيما بينهم ولكن أيضًا مع القوى الإقليمية والدولية ورافق ذلك الإعلان عن رفض تهجير الفلسطينيين من ديارهم.
رد ترامب بتكرار أفكاره والتهديد بممارسة الضغوط على الدول العربية، وانتقد نيتانياهو موقف السعودية وأنه إذا كانت الرياض حريصة على إقامة دولة فلسطينية، فيمكنها أن تقيمها على جزء من أراضيها الواسعة. واستدعى هذا بدوره ردودًا عربية قوية، كان أولها البيان المصرى الذى وصف فيه العبارات التى استخدمها نيتانياهو «بغير المسئولة» و«المستهترة» و«المنفلتة» و«المتهورة» وأنها مرفوضة جملة وتفصيلًا وأن أمن السعودية من أمن مصر، وتلاه بيانات من الدول العربية الأخرى فى الاتجاه ذاته.
ويعود ثالثًا إلى الرفض الدولى على مستوى الحكومات والشعوب وأدوات الإعلام لأفكار ترامب. وحذر الأمين العام للأمم المتحدة من «شيطنة شعب بأسره» مؤكدًا رفض أفكار «التطهير العرقي»، وحق الفلسطينيين فى أن يعيشوا ويقرروا مصيرهم على أرضهم وفقًا لحل الدولتين. ثم كانت الاعتراضات والانتقادات من الداخل الأمريكي، التى تمثلت فى مواقف عدد من أعضاء مجلسى النواب والشيوخ من الحزبين الجمهورى والديمقراطي، وفى المقالات التى نشرتها كبريات الصحف الأمريكية.
ولكن القصة لم تنته بعد، فمن الضرورى الاستمرار فى التعبير عن الموقف العربى الرافض لتهجير الفلسطينيين وبلورة بديل عربى واقعى لإعادة تعمير قطاع غزة دون مغادرة أهله لأراضيهم وهو الجهد الذى تقوم فيه مصر بدور محوري. سوف يتضح ذلك فى مؤتمر القمة الخماسية فى الرياض والقمة العربية الطارئة فى القاهرة. من الضرورى أيضًا أن تعمل مصر وقطر مع أمريكا لاستمرار تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار، وضمان وصول المعونات الإغاثية والإنسانية إلى غزة.
ويرتبط كل هذا بالتوافق على نظام لإدارة القطاع من خلال السلطة الوطنية الفلسطينية، وتأكيد الصلة بين غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة باعتبارهم أركان الدولة الفلسطينية.
لقد قادت مصر حملة دبلوماسية واسعة لشرح خطورة الأفكار التى اقترحها ترامب وحشد الدعم والتأييد، دفاعًا عن مبادئها ومصالحها دون استعداء للرئيس الأمريكى المثير للعواصف. وسوف يستمر هذا التحرك بنفس الدرجة من اليقظة والحكمة والتمسك بالثوابت المصرية والعربية.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية