تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
الطهطاوى والطنطاوى.. من وصف باريس إلى وصف روسيا «3-3»
فى أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، اهتم المفكرون المصريون والعرب بمعرفة التقدم الأوروبى فى مجال العلوم والصناعة والتنظيم الإدارى والسياسي، وهو ما أسماه د. إبراهيم أبو لغد إعادة اكتشاف العرب لأوروبا الصادر عام 1963. فسافر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى إلى فرنسا فى 1826، وكتب تخليص الإبريز فى تلخيص باريز الذى مثّل خطوة مهمة نحو تجديد الفكر المصرى والعربي، وسافر الشيخ محمد عياد الطنطاوى إلى روسيا فى 1840وكتب تحفة الأذكياء بأخبار مملكة الروسيا الذى قدم وصفا شاملا للأوضاع فى روسيا القيصرية. وفى الكتابين، يجد القارئ وصفا لمختلف مظاهر الحياة الأوروبية ومقارنات بينها وما يحدث فى مصر. وكما ذكرت فى مقال سابق، فإن الطنطاوى كان قد تعرف على الطهطاوى قبل سفره إلى روسيا، وراسله من هناك وورد فى أحد خطاباته: أنا مشغوف بكيفية معيشة الأوروبيين وانبساطهم وحسن إدارتهم وترتيبهم خصوصا ريفهم، وبيوتهم المحدقة بالبساتين والأنهار إلى ذلك مما شاهدتهم قبلى بمدة فى باريزاذبتربورغ (يقصد بطرسبورج) لا تنقص عن باريز فى ذلك، بل تفضلها فى أشياء كاتساع الطرق.
كان هدف هؤلاء الرواد فهم أسرار التقدم الأوروبي، وكيف استطاعوا تحقيق نهضتهم. سار الطنطاوى فى كتاب تحفة الأذكياء على خطى الطهطاوى فى تخليص الإبريز، فاعتمد على وصف وتسجيل ما شاهده وعاصره فى الرحلة، والتى شملت جغرافية المكان، وسمات السكان، وأنماط السلوك السائدة بينهم، ونظم التعليم والصحة وخدمات النظافة. قدموا أيضا صورة عن ملابس الأوروبيين، والمتنزهات العامة فى مدنهم، ووسائل الترفيه لديهم كالرقص والتردد على التياترو. ركز الطهطاوى والطنطاوى على تسجيل مظاهر التقدم التعليمى والثقافي، فعرضا للمدارس والمعاهد والجامعات والجمعيات العلمية والأدبية، والمكتبات العامة والمتاحف, وكما اهتم الطهطاوى بدور التعليم واعتباره أساسا للنهضة، كتب الطنطاوى عن تقدم الروس فى العلوم والصنائع، وذلك من خلال اهتمامهم بالمدارس التى تعلم العلوم النظرية كالمنطق والرياضيات والأدب والتاريخ والجغرافيا، والمهارات العملية كالتصوير والموسيقى والرقص، وكذلك الخياطة وشغل الطارة والإبرة والنسيج للبنات، ويزيد للأولاد دراسة اللغة اللاتينية والرومانية.
كتب أيضًا عن دور الدولة فى إقامة المدارس القيصرية الكبرى والتى بلغ عددها ست مدارس، والتى هى بمثابة جامعة، يلتحق بها الطلاب الذين أتموا مرحلة تعليمهم المدرسى واجتازوا امتحانا للقبول، فيلتحقون بها لمدة أربع سنوات، يدرسون فيها حسب تعبير الطنطاوى تخصصات مختلفة تشمل علوم الفقه والدين والرياضيات والأدبيات والمنطق وعلم المعادن الطبيعية والجغرافيا والتواريخ والألسن حتى الألسن الشرقية، كالعربى والتركى والتاتارى والفارسى والأرمينى والكرجى (يقصد الكردية) وغيرها. وذلك إضافة إلى، الأكاديميات المتخصصة فى أحد المجالات العلمية.
وسجل الطنطاوى اهتمام الدولة بمدارس ذوى الاحتياجات الخاصة، وأنه حضر حفلة رقص للصم والبكم، كان العازف على آلة القانون أعمى.
واتصالا بالتعليم، سجل الطنطاوى تقدم الروس فى مجال الجرائد والمجلات التى تهدف إلى نشر المعارف. فإلى جانب الجرائد اليومية التى تنقل الأخبار وتُعلِق على الأحداث الجارية، صدرت مجلات أسبوعية وشهرية تهتم بالأدب، والكتب الحديثة، وأخرى موجهة للأطفال تقدم لهم العلوم والحكم والحكايات المسلية.
وتعليقا على منح القيصر له وساما مكافأة له على أحد بحوثه، كتب الطنطاوى أننا قلدنا الأوروبيين فى منح النياشين والأوسمة لكبار الموظفين، لكن إلى الآن ما فعلنا ذلك مع التلاميذ والمعلمين، فأى مانع من ذلك. وذكر أنه ينبغى تحريض التلاميذ على التعليم، وتشجيعهم على التفوق والاستمرار فى طلب العلم، واقترح أن يكون ذلك من خلال منحهم ألقابا وجوائز.
ومع أهمية وحداثة الأفكار التى ذكرها الطنطاوى فى كتابه، فإنها لم تؤثر على مسار الفكر المصرى والعربى الحديث بأى قدر يشابه تأثير الطهطاوي. ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب. منها، أن كتاباته ظلت مجهولة للقارئ العربى لسنوات طويلة، وما زال جزء كبير منها حتى الآن فى شكل مخطوطات. ومنها، أنه بينما كانت رحلة الطهطاوى إلى فرنسا، الدولة المتقدمة التى قطعت شوطا كبيرا فى مجال الأخذ بمبادئ الجمهورية والدستورية وحكم القانون إلى جانب تقدمها فى مجال العلوم والفنون، فإن الطنطاوى سافر إلى روسيا التى كانت مازالت فى المرحلة الأولى من نهضتها خاصة فى المجال السياسي، ولذلك يلاحظ أنه بينما تناول الطهطاوى الجدل فى فرنسا بشأن الجمهورية والدستور والنظام الملكي، فإن الطنطاوى تحاشى تماما الخوض فى هذه المسائل، وذلك بحكم الأوضاع السائدة فى روسيا القيصرية وقتذاك.
أضف إلى ذلك، أن الطهطاوى عاد إلى مصر فى 1831 وشارك فى عملية تحديثها من خلال كتبه ومؤلفاته، وكذا بتقلده لعدد من الوظائف التى مكنته من إدخال الجديد فى بلده، فعمل مترجما بمدرسة الطب، ومدرسا ومديرا لمدرسة الترجمة (الألسن)، وأنشأ مدرستى المحاسبة والإدارة، ورأس تحرير الوقائع المصرية، وهى الجريدة الرسمية وأصدرها باللغة العربية بدلا من التركية، واستمر فى نشر أعماله التنويرية حتى وفاته فى 1873. بينما واصل الطنطاوى إقامته فى الخارج، وكانت المرة الوحيدة التى عاد فيها إلى مصر فى 1844 ثم عاد بعدها إلى سان بطرسبرج حتى وفاته فى 1861.
مع ذلك، تظل رحلة الطنطاوى علامة مهمة فى عدد من المجالات، تشمل الأسلوب الأدبى الذى تميز به، ومزجه بين اللغة العربية الفصحى المستخدمة وقتذاك وعديد من الكلمات العامية المصرية، واستشهاده المتكرر بأبيات من الشعر، ولجوءه إلى النكات والحكايات الطريفة، وأنها توفر لنا مرجعا فريدا عن حياة الروس فى هذه الفترة بتفاصيلها ودقائقها وبناء على المعايشة المباشرة، ثم إنها توثق تأثير الشيخ على حركة الاستشراق فى روسيا.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية