أكتب اليوم عن مسجد آخر من مساجد أهل البيت فى القاهرة، وهو مسجد السيدة نفيسة الكائن فى طريق أهل البيت بحى الخليفة، والذى يبدأ بمسجد على زين العابدين، فالسيدة نفيسة، والسيدة سكينة والسيدة، رقية، والسيدة عاتكة عمة الرسول، وينتهى بمسجد السيدة زينب. ارتبط المصريون بالسيدة نفيسة لعلمها وورعها وتقواها، وسموها «نفيسة الطاهرة»، و«نفيسة العابدة» و«نفيسة الدارين»، و«نفيسة المصريين». هى السيدة نفيسة بنت حسن الأنور حفيد الحسن بن على بن أبى طالب والسيدة فاطمة الزهراء، ولدت فى مكة فى عام 145هـ، تعلمت القراءة والكتابة وحفظت القرآن الكريم، وعاشت فى رحاب المسجد الحرام ومنازل الصحابة وآثارهم.

تلقت العلم فى طفولتها على يد أبيها، الذى كان عالما متفقها فى أمور الدين، وتولى إمارة المدينة المنورة، وفيها ترددت السيدة نفسية على المسجد النبوي، استمعت إلى دروس الإمام مالك بن أنس، فقرأت كتابه «الموطأ» ونهلت من علمه ومعارفه، فاشتهرت باسم «نفيسة العلم والمعرفة». ثم تزوجت من اسحق بن جعفر الصادق الشهير بإسحاق المؤتمن حفيد الحسين بن على فى عام 161 هـ، وأنجبت أبا القاسم وأم كلثوم.

قدمت إلى مصر بصحبة زوجها فى رمضان 193هـ، وعاشت فيها حتى وفاتها فى شهر رمضان 208هـ. استقبلها أهالى الفسطاط بالمودة والترحاب لما اشتهرت به من علم وصلاح، ودعاها كبير تجار مصر للإقامة فى داره فمكثت عنده عدة شهور، انتقلت بعدها إلى دار أم هانئ وهى امرأة مصرية ورعة، وبعدها لدار ثالثة فى منطقة الحسينية. وعلى مدى تلك السنوات، تقاطر على مسكنها المصريون من جميع أرجاء البلاد، طالبين منها الدعاء لهم لقضاء حوائجهم بعدما عُرف عنها من كرامات، وللسؤال عن أمور دينهم لما عُرف عنها من تبحر فى علوم الدين. وأخذ ذلك كثيرا من وقتها حتى إنها فكرت فى العودة إلى الحجاز للتتفرغ للعبادة والعلم.

فتدخل والى مصر السرى بن الحكم وأمر بأن تقتصر زيارتها على يومين فقط هما السبت والأربعاء حتى تقضى بقية أيام الأسبوع فى جو الهدوء والخشوع الذى ترغبه، فوهبها دارا أوسع فى منطقة درب السباع لاستقبال ضيوفها وهى نفس الدار الذى دفنت فيها وأقيم ضريحها ومسجدها فى نفس المكان الموجود حاليا.

أقامت السيدة نفيسة مجالس العلم التى استقبلت فيها مريديها من طلاب المعرفة، وكبار العلماء الذين حاورتهم من وراء حجاب. كان من بينهم الإمام الشافعى الذى طلب منها الصلاة عليه بعد وفاته، وبالفعل عندما توفى فى 204هـ أدخلوا جنازته إلى دارها، فصلت عليه.

ويتردد أن السيدة نفيسة بدأت فى حفر قبرها بيديها، وبعد وفاتها أقام والى مصر عبيد الله بن السرى بن الحكم المشهد النفيسى على قبرها.

ويُشير المؤرخون إلى أن كافور الإخشيدى الذى حكم مصر خلال الفترة 355-357هـ، كان يزور المشهد كل يوم خميس، فيترجل من على حصانه ويدخل المكان حاسر الرأس للدعاء، وكان يرسل الزيت والشموع والعطور والقناديل للحفاظ على رونق المقام.

وفى عهد الدولة الفاطمية، أمر الخليفة الخامس المستنصر بالله فى 482هـ بإعادة بناء المشهد فأقيمت عليه قبة. وسجل ما قام به على لوح من الرخام تم وضعه على باب الضريح. وفى عهد الخليفة الحادى عشر، الحافظ لدين الله، تصدعت القبة فأمر بتجديدها فى عام 532هـ، وتم تكسية المحراب بالرخام.

وأمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون فى 752هـ، بتجديد المشهد وأن يصبح الإشراف عليه من اختصاص الخلفاء العباسيين الذين انتقلوا إلى القاهرة بعد غزو المغول لعاصمتهم بغداد. وعندما توفى الخليفة أبو العباس أحمد بن العباس، أمر قلاوون بدفنه بالقرب من المشهد النفيسى وأقيمت له قبة خلف قبة السيدة نفيسة تُعرف باسم قبة الخلفاء العباسيين، ودفن إلى جواره عدد من كبار العباسيين، ومازالت موجودة خارج المسجد.

ووصف الرحالة والشاعر الدمشقى عبدالغنى النابلسي، الذى عاش خلال الفترة من 1050-1143 وزار مصر ودُفن فيها، تعلق المصريين بالسيدة نفيسة ومحبتهم لها، وأن حكام مصر من خلفاء وسلاطين كانوا يبدأون زيارة مساجد أهل البيت بالمشهد النفيسى ويختمونها بالمشهد الحسيني.

فى القرن الثامن عشر الميلادى فى ظل الحكم العثماني، يسجل الجبرتى أنه فى عهد على بك الكبير قام الأمير عبدالرحمن كتخدا بإعادة إعمار مساجد القاهرة، وهو ما سبق أن أوردته فى مقالاتى السابقة عن مساجد السيدة زينب والإمام الحسين والسيدة سكينة، فقام أيضا بإعادة عمارة المشهد النفيسى ومسجده فى عام 1760م.

كما سجل على مبارك فى «خططه التوفيقية» وصفا تفصيليا للمشهد والمسجد، مضيفا أنه يتم الإنفاق عليه من حصيلة الأوقاف المُخصص ريعها له، وحصيلة صندوق النذور، إضافة إلى قيام نظارة الأوقاف بتوفير الحصير والأبسطة وزيت الإنارة للمسجد.

اهتم الخديو عباس حلمى الثانى أيضا بمساجد أهل البيت، فتمت إعادة بناء المسجد على النحو القائم حاليا فى عهده، وبنيت مئذنة جديدة بدلا من المئذنة القديمة ذات التراث العثمانى وافتُتح المسجد فى عام 1897.

كانت السيدة نفيسة محلا لاهتمام الأعمال الفنية والدرامية، فجسدت شخصيتها الفنانة الفلسطينية الأردنية فرح بسيسو فى عام 2023 فى مسلسل «رسالة الإمام»، والمسلسل الإذاعى «سيدة الدارين» الذى بثه البرنامج العام بالإذاعة المصرية فى رمضان هذا العام، وأدت دورها الفنانة حنان مطاوع.

حب آل البيت عميق فى نفوس المصريين، وهو حب عابر للطبقات والمناصب يجتمع عليه الوزير والغفير. وهو المعنى الذى تحدث عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى يوم 20 مارس 2025 بعد تفقده لأعمال التجديد والتطوير وتأديته صلاة الفجر فى مسجد السيدة نفيسة، مشيرا إلى حرص الدولة على تجديد عمارة كل مساجد آل البيت.

◙ وكل عام ونحن جميعا بخير.