تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

الصفحة الرئيسية > الكتاب > د. علي الدين هلال > الزواج وثقافة الترشيد فى الريف

الزواج وثقافة الترشيد فى الريف

عندما دعانى د.جمال مصطفي‪,‬ أستاذ الجراحة الشهير‪,‬ للمشاركة فى جلسة ضمن حوارات المنتدى الثقافى الذى يديره منذ سنوات باسم منتدى الجراح فى موضوع الترشيد ثقافة اجتماعية، قبلت على الفور لجدة الموضوع وأهمية مناقشته، وضرورة إدراجه على جدول أعمال خطة الإصلاح الاجتماعى والثقافى فى مصر.

فعادة ما يدور النقاش العام حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى، ولا نعطى اهتمامًا بنفس الدرجة إلى سلوكيات الإنسان المصرى البسيط فى عموم البلاد، وكيف يدير أمور حياته اليومية، وعما إذا كانت تلك السلوكيات تساعد على تحقيق الأهداف الكبرى للإصلاح، أم أنها معوق لها.

وهنا تظهر أهمية الموضوع الذى دُعيت للتحدث فيه. وإذا كان تعبير الترشيد يرتبط بمعانى الرشد والرشادة والسلوك الرشيد، وأن الإنسان يتصرف على النحو الذى يحقق مصالحه ويزيد من رفاهيته، فإن التبذير يحمل المعنى المناقض ويشير إلى السفه وتصرف الإنسان على النحو الذى لا يحقق مصلحته، ويتضمن المبالغة فى الإنفاق فيما لا يأتى على الإنسان بفائدة بل يضره، وذلك رغبة فى التباهى والتقليد الأعمى لسلوك الآخرين ومجاراتهم.

وفى التعبير القرآني، «.. ولا تبذر تبذيرا. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين..ِ» (الإسراء 26 و27). وفى النهى عن الإسراف، ورد «وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف 31).

ففى مصر، تنتشر عادات وتقاليد ترتبط ببعض المناسبات الاجتماعية تتسم بعدم الرشادة، وتُصور معانى التبذير والإسراف والاستهلاك التفاخري، وهى ممارسات موجودة بين كل طبقات المُجتمع وفئاته على اختلاف قُدراتها المالية.

وأركز فى هذا المقال على التقاليد المرتبطة بالزواج، الذى تزداد وطأة تكاليفه على الأسر المصرية الفقيرة التى تحرص رغم ظروفها المادية الصعبة على الالتزام بها.مما فرض أعباء ثقيلة عليها ودفعها إلى الاستدانة للوفاء بهذه المظاهر الكاذبة. وعلى سبيل المثال، فإن جهاز العروسة ينبغى أن يتضمن أعدادا كبيرة تصل إلى دستة أو اثنتين من المفروشات كالملايات والبطاطين والفوط والمفارش، وأدوات الطعام من أكواب وأطباق وأوان من حلل وصوان. أضف إلى ذلك، الستائر والسجاد والأجهزة الكهربائية من بوتاجاز وثلاجة وغسالة ملابس وأطباق وميكروويف والعجانة وخلاط. يضاف إلى ذلك، جهاز التليفزيون الذى يشترط أن يكون حجمه كذا بوصة، وأحيانا جهاز الكمبيوتر.

ويزداد الأمر صعوبة عندما تشترط بعض العائلات أن تكون مُشتملات الجهاز من ماركات مرتفعة الثمن. ومن أغرب ما تطلبه بعض العائلات، أن يشمل الجهاز التوستر أو محمصة الخبز. أضف إلى ذلك بند ملابس العروسة الذى يشمل كُل ما ترتديه فى داخل المنزل وخارجه وفى فصلى الشتاء والصيف.

وحسب التقاليد فى كثير من القرى فى الوجهين البحرى والقبلي، تنطلق سيارات تحمل الجهاز فى شوارع القرية فى زفة الجهاز، وذلك حتى يُشاهدها أهالى القرية ويتأكد الجميع بأنفسهم أن جهاز هذه العروسة كامل الأوصاف وأنه لا يقل عددا أو عدة عن جهاز ابنة فلان وأخت علان من أبناء القرية. وحتى يكتمل المشهد، هناك عادات أخرى فى بعض المحافظات، مثل عادة رد الشبكة وهى أن تقوم أسرة العروسة فى خلال أسبوع من تقديم الشبكة بإهداء والدة العريس أجولة من الدقيق والأرز والسكر وكميات من الطيور والفواكه.

ما هو مصدر هذه العادات؟ وكيف تطورت فى القرى المصرية؟ يتفق الباحثون فى هذا الموضوع على أنها ارتبطت بسفر بعض الشباب من الأُسر الفقيرة إلى الخارج للعمل ثم عودتهم بالمال الذى استخدموه لتحسين أوضاع أُسرهم. وكان أحد مظاهر ذلك هو المُبالغة فى الإغداق على تجهيزات الخطوبة والزواج. ثم انتشرت هذه العادات بعد ذلك بين الذين لديهم من المال ما يكفى والذين لا يمتلكونه ولكنهم يعتقدون أن ليس لديهم بديل عن اتباع هذه العادات.

أدى انتشار هذه العادات إلى فرض أعباء إضافية على كاهل الأسر المصرية المحدودة الدخل بما يفوق قدراتها ومواردها، مما دفعها إلى الاقتراض، ثم العجز عن الوفاء بالديون ودخول السجن نتيجة لذلك، ويندرج ضمن هؤلاء رجال وسيدات يطلق عليهم الغارمون والغارمات، وهو التعبير الذى يستخدم للإشارة إلى الشخص الذى وقع على إيصالات أمانة لأصحاب المحلات مقابل الشراء بالتقسيط.

يمثل ارتفاع تكاليف الزواج أحد الأمثلة الدالة على ثقافة عدم الرشادة فى السلوك الاجتماعي، الذى يلحق ضررا بالغًا بمن يُمارسه، ويُعد إهدارا لموارد محدودة كان يجب أن تستخدم لأغراض أكثر جدوى ونفعا. وهذه المظاهر لا تقتصر على جهاز العروسة وإنما تمتد لتشمل مظاهر مماثلة فى مجال الطعام والزى وشراء التليفون المحمول والسيارات، وهى كلها جزء من الثقافة العامة السائدة فى المجتمع.

تُشير تجارب الدول المُتقدمة إلى أن الإنسان هو هدف التنمية وسبيلها، وأن إصلاح المجتمع أو الاقتصاد يرتبط ارتباطا وثيقا بإصلاح سلوك الفرد.فبناء الأمم والمجتمعات يتم بالعمل الجاد المستمر وليس بسلوكيات التباهى الاجتماعى والمظاهر الكاذبة، وكل الأديان والأفكار وخبرات الدول التى سبقتنا تؤكد ذلك. والمهم أن تصل هذه المعانى إلىالفئات المستهدفة والتى من الأرجح أنها لا تقرأ الصحف لذلك فمن المهم أن تقوم أدوات الإعلام الجماهيرى والميديا الجديدة بهذا العمل التنويري، ولكن التأثير الأكبر يكون من خلال الاتصال المُباشر أى وجها لوجه.

وهذا هو دور الهيئات والجمعيات الأهلية العاملة على مستوى القرى وخصوصا فى قرى مشروع حياة كريمة، فهدفه ليس مجرد تطوير المبانى وخدمات البنية الأساسية، وإنما يمتد أيضًا إلى تحرير الإنسان المصرى من قبضة عادات سلبية تكرس التخلف وتعوق التقدم.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية