تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
التاريخ والسياسة
كتبت فى هذا المكان عن العلاقة بين الإحصاء والسياسة، واتصالا بذلك أكتب اليوم عن العلاقة الوثيقة بين التاريخ والسياسة، وهو موضوع شغفت به من سنين طويلة، وتحدثت فيه فى يناير 2024 عندما تلقيت دعوة كريمة من د. أحمد الشربينى أستاذ التاريخ بآداب القاهرة ورئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية. وهى بالمناسبة جمعية علمية عريقة، تأسست عام 1945بمرسوم ملكى تحت اسم الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، وكان مقرها لفترة طويلة 2 شارع ناصر الدين المتفرع من شارع البستان بالقاهرة بجوار النادى الدبلوماسى وسط القاهرة، حتى انتقلت إلى مبناها الجديد بمدينة نصرالذى دعم إنشاءه صديق مصر الشيخ سلطان القاسمى حاكم الشارقة. أدركت مبكرا أن البحث فى الأمور السياسية يتطلب معرفة واسعة بالتاريخ، وتعرفت على عدد من أساتذة التاريخ، كان منهم د. محمد أنيس، ود. يونان لبيب رزق، ود. عبد العظيم رمضان، ود.رءوف عباس، ود. عادل غنيم، ود. لطيفة الزيات وغيرهم.
ومن الكتب التى أثرت فى تفكيرى مبكرا مؤلف للمؤرخ البريطانى إدوارد كار صادر عام 1961، بعنوان «ما هو التاريخ»، وتعلمت منه أن التاريخ هو الماضى منظور إليه من وجهة نظر الحاضر وأن المؤرخين يختارون الوقائع والأحداث التى يعتبرونها مهمة تستحق التسجيل فى كتب التاريخ، وتعلمت أن التاريخ هو سياسة الماضى والسياسة هى تاريخ الحاضر،ثم تعلمت بعد ذلك عن التاريخ كمستقبل وتعبير تاريخ المستقبل.
على المستوى الأكاديمي، فإن العلاقة بين علمى السياسة والتاريخ وثيقة. فالبحوث التاريخية تُقدم المعلومات والمادة الخام لبناء المفاهيم والنظريات السياسية، كالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية فى الداخل، والصراع أوالتوازن الدولى فى السياسة الخارجية. وعلى سبيل المثال، فعند دراسة تطور الفكر السياسى لا يمكن فهم إسهامات الفلاسفة والمفكرين السياسيين، دون دراسة الواقع التاريخي، والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى عاصروها وتأثروا بها، وتاريخهم الشخصى لفهم دلالة أفكارهم. فلا يمكن دراسة فيلسوف عظيم مثل أرسطو دون معرفة أنه كان معلما للإسكندر الأكبر، أو دراسة الإيطالى نيكولا ميكافيلى (1469-1527)، صاحب كتاب الأمير، دون إدراك أنه عمل دبلوماسيا فى جمهورية فلورنسا، وتألم من ضعف وتفكك الممالك الإيطالية، فقدم فى كتابه المسار الذى يجب على الأمير القوى اتخاذه لتحقيق الوحدة الإيطالية.
وكذلك، فإن الفرنسى جان بودان (1530-1596)، الذى أسس مفهوم سيادة الدولة كان عضوا فى البرلمان وأستاذا للقانون فى جامعة تولوز، وعمل مستشارا للملك هنرى الرابع الذى حكم فرنسا لفترة فقد تألم أيضا من حالة الحروب الدينية والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت فى بلاده، فدافع عن وجود دولة قوية تتمتع بالسيادة المطلقة. وكذلك، الإنجليزى توماس هوبز (1588- 1679)، مؤلف كتاب «اللفياثان»، وهو اسم لوحش بحرى خُرافى له رأس التنين وجسد الأفعى، الذى دافع فيه عن السلطة المطلقة للدولة، فقد عمل مدرسا خاصا لأسرة كافين ديش الأرستقراطية، وعاصر الحرب الأهلية الإنجليزية بين عامى (1642-1651). وتوصل إلى ضرورة إقامة دولة قوية للحفاظ على أمن الأفراد وسلامة المجتمع. وأستطيع أن أضرب المثل بعشرات الفلاسفة فى الفكر الغربى والعربى الإسلامي، لتبيان أن إسهاماتهم جاءت استجابة للواقع الذى عاشوه.
وإذا انتقلنا من مجال الفكر إلى تحليل أوضاع الدول وأشكال الحكومات والنظم السياسية، فسوف نصل إلى نتيجة مشابهة. فكل دولة تعكس تاريخ نشأتها وتطورها والظروف التاريخية التى مرت بها، وشتان مثلا بين دول حصلت على استقلالها من خلال المفاوضات، وأخرى خاضت حروبا ضد المستعمر. وشتان أيضا بين دول تاريخية قديمة، ودول حديثة نشأت عن طريق الهجرة كالولايات المتحدة وكندا.
وعلى نفس المنوال، فإن سلوك المؤسسات السياسية يتأثر بتاريخ نشأتها، فهناك جيوش نشأت كجزء من الحركة الوطنية للشعوب، وأخرى أقامتها السلطات الاستعمارية كأدوات لضرب التحركات الشعبية. وعلى مستوى الواقع والممارسة العملية، فإن العلاقة بين التاريخ والسياسة وثيقة للغاية، فالتاريخ هو الوعاء الحافظ للذاكرة الجمعية للشعوب، والذى يحفظ وحدتها وهويتها وانتماءها. وأستخدم تعبير التاريخ هنا بمعنى واسع، يشمل ثلاثة جوانب. أولها، تاريخ الآثار المادية كتراث المصريين القدماء والكنائس والمساجد، وثانيها، التاريخ غير المادى كصور الإبداع الأدبى والفكري، وكذلك الفولكلور والأمثال الشعبية.
وثالثها، تاريخ المؤسسات والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه الجوانب متداخلة وتمثل فى تفاعلها ذاكرة الشعب والمجتمع. تقدم كتب التاريخ الركيزة الأساسية للهوية الوطنية والتضامن الاجتماعي، ومن ذلك تقديم المؤرخين الفرنسيين لصورة الثورة الفرنسية كأساس فى بناء الدولة الحديثة وتكريس قيم «الجمهورية»، وجهود عدد من المؤرخين المصريين العظماء مثل محمد صبرى السوربونى وعبدالرحمن الرافعى ومحمد شفيق غربال. وفى المقابل، قام بعض المؤرخين بأدوار أخرى. مثل، تغذية النزعات القومية الاستعلائية والتوسعية. وعلى سبيل المثال، انطلق هيرودوت ثوسيديس من رؤية قومية إغريقية، وأن المؤرخين النازيين أعادوا كتابة التاريخ الألمانى على النحو الذى يُبرر توسعات للرايخ الثالث. وفى أحيان أخرى، برر المؤرخون الأوهام القومية، والرسالة الحضارية التى تحملها أمة ما ووضعوها أساسا لشرعية تاريخية. وتدخلت بعض الدول لإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر إيديولوجية لنظام الحُكم، وقام عدد من الدول الأوروبية بتجريم التشكيك فى المحرقة النازية لليهود. كما أن هامش الحُرية للمؤرخ فى جمع المعلومات وتقييمها والتعبير عنها يختلف من نظام حكم لآخر.
ساد الاعتقاد حتى نهاية القرن التاسع عشر بالفائدة العملية للتاريخ، وأنه يقدم النماذج التى يمكن أن يستفيد منها الملوك والحكام فى حل المشكلات. لكن مع نهاية القرن العشرين وازدياد دور المعرفة العلمية والتكنوقراطية، وسطوة الثقافة الأمريكية البرجماتية، تراجع الاهتمام بالمعرفة التاريخية وساد موقف غير مكترث بالتاريخ. من جهتي، أعتقد بأهمية التاريخ كمُستودع لخبرات أى مُجتمع، وتأكيد هُويته، وفهم قضايا حاضره ومُستقبله.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية