تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ما وراء الإبادة.. رهانات مسكوت عنها
تستحق جريمة الإبادة المستمرة منذ ما يقرب العامين، ومخطط التهجير المزمع تنفيذه ضد الشعب الفلسطيني؛ وقفة موضوعية تنفذ إلى ما وراء هذه الجريمة، والظروف المعقدة التى جعلت تنفيذها ممكنا على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، وعجزه وقصوره عن إيقافها وكذلك طبيعة هذه الجريمة والبنى التى أنتجتها، والهدف بالتأكيد ليس الوقوف عند الفهم أو التفسير، ولكن بهدف بناء وعى جديد تحررى عربى يستند إلى أسس مفاهيمية ومعرفية مستقلة، عن منظومة المفاهيم والمعارف المرتبطة بالرؤية الإسرائيلية الغربية، التى لا ترى فى جريمة الإبادة إلا مجرد تجاوز لما تسميه هذه السردية «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها».
بادئ بدء وكعنصر أساسى فى هذه النظرة لما وراء جريمة الإبادة الإسرائيلية الأمريكية الغربية بحق الشعب الفلسطيني، يتمثل فى أنها ليست حدثا طارئا أو استثنائيا أو اضطراريا من إسرائيل والأيديولوجية الصهيونية التى توجهها؛ بل هى تمثل مكونا تأسيسيا فى الفكر الصهيوني، منذ ما يفوق القرن وحتى الآن، وأن الوقائع والواقع على مدى هذه الفترة بالغة الدلالة وغير قابلة لا للدحض أو التبرير، ونكتفى ببعضها فقط حيث قامت إسرائيل والصهيونية فى عامى 1947، 1948 بتطهير عرقى طال ما يقدر بـ 750 ألف فلسطيني، طردوا من أرضهم وديارهم، وذلك وفق مخطط متعدد المستويات والمراحل، فضلا عن عشرات المذابح فى القرى والبلدات الفلسطينية التى كانت العصابات الصهيونية تحاصرها من جهات ثلاث، وتترك الجهة الرابعة لمغادرة من بقوا على قيد الحياة.
وبناء على ذلك فإن جريمة الإبادة والتطهير العرقى الجارية طيلة ما يقرب من العامين ما هى إلا امتداد كيفى ونوعى وتراكمي، لمنظومة الجرائم الإسرائيلية التى ارتكبتها إسرائيل، قد تكون الأخطر والأوسع والأكثر إجراما. طبيعة جريمة الإبادة وبنيتها التى أنتجتها على هذا النحو تقتضى النظر إليها ليس كحدث يخص فلسطين، أو الشعب الفلسطيني، بل كحدث دولى وعالمي؛ ذلك أن الصراع فى فلسطين هو صراع تحررى ضد القوى الاستعمارية وإسرائيل فى القلب منها، وهذه القوى عقدت العزم على إسكات ليس صوت المقاومة، بل فرض الهيمنة على كل دول الإقليم وفرض الاستسلام على المقاومة ورفع الراية البيضاء، ولعل ذلك ما يفسر استمرار الإبادة على هذا النحو والدعم غير المحدود لإسرائيل فى حربها على الشعب الفلسطيني، لأن الرهان وراء الإبادة تفكيك الإقليم وعقدته الحضارية.
ظروف إسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية تداخلت وتشابكت، ولكنها جميعا أسهمت فى وقوع الجريمة، واستمرارها؛ داخليا ظهرت نسخة جديدة من المشروع الصهيونى ألا وهى النسخة الدينية القومية اليمينية المتطرفة، التى تريد وضع نهاية لمطلب الدولة الفلسطينية وحل الدولتين، عربيا ردود فعل مترددة وخجولة إزاء صفقة القرن والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان، وذلك فضلا عن شيطنة المقاومة والمبالغة فى التعويل على الخيار التفاوضي، بل واعتباره الحل الوحيد، كما أن الانقسام الفلسطينى أسهم فى هذه الجريمة.
أما على الصعيد الدولى فإن الخطاب الدولى فى أحدث نسخة له يريد أن يحقق لإسرائيل بالدبلوماسية ما عجزت عن تحقيقه بالقوة والإبادة، ألا وهو نزع سلاح المقاومة وكتابة الفصل الأخير فى مسيرتها، بل واستبعاد المقاومة من الحضور فى المشهد السياسى بأى صورة من الصور، وهكذا اختار الخطاب الدولى أسهل الطرق ألا وهو تحميل الضحية المسئولية، وإلقاء عبء استمرار القتل والإبادة على المقاومة، بل واعتبارها إرهابا وشيطانا معاديا للاستقرار وحاملا للخراب والتخريب.
وهذه الشروط التى يفرضها الخطاب الدولى تطرح فى مقابل الدولة الفلسطينية فى الأراضى المحتلة عام 1967، دولة منزوعة السلاح وفاقدة للسيادة، ناهيك بالإقليم المفترض أن تقام فيه ملغوم بالاستيطان والمستوطنات، وحظر قيامها الكنيست ووهب نيتانياهو حياته من أجل حظر قيام هذه الدولة، ولا يخفى على أحد من أصحاب هذا الخطاب أن مثل هذه المعطيات التى لا يكفى فى مواجهتها الاعتراف القانونى بالدولة الفلسطينية، -رغم أهميته الرمزية- بل لابد أن يرتبط هذا الاعتراف بضغوط حقيقية سياسية واقتصادية على إسرائيل ووقف الشراكة التجارية معها؛ أو مقاطعتها على غرار ما حدث مع نظام بريتوريا فى جنوب إفريقيا العنصرى وحظر تصدير السلاح لإسرائيل.
الوعى بطبيعة الرهانات المرتبطة بالصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، وتموضع هذا الصراع فى حقل المواجهة بين التحرر الفلسطينى وإسرائيل والقوى الاستعمارية والولايات المتحدة هو حجر الزاوية فى بناء المشروع التحررى العربي، الذى تشغل منه فلسطين مكانة القلب، بالإضافة إلى ذلك فإننا نعتقد أن الكتابة عن الإبادة فى إطار هذه النظرة ليس فحسب فضحا لجريمة الإبادة أو شرحا لخلفيتها الإيديولوجية والسياسية بل إسنادا للمقاومة واعتبار الكلمات مقاومة من نوع آخر.
ولا شك أن تشخيص الصراع والإبادة كنتاج لهذه التشابكات الإقليمية والدولية والداخلية الإسرائيلية بمنزلة بداية الطريق المطلوب لتجاوز المحنة والإبادة والحؤول دون أن تكون هذه الجريمة نهاية المطاف للتحرر من الصهيونية والاحتلال والاستعمار، بل بداية لتأسيس وعى جديد تحررى وإنسانى وأخلاقى عهد لمحاكمة مرتكبيها دوليا وتوقيع العقاب عليهم وحصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة ووفاء للدماء الذكية التى أراقها الاحتلال، وعصف بكل القيم التى تصدرت المجتمع الدولى كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التى ثبت عمليا أن أصحابها ومروجيها قد تخلوا عنها عمليا عندما تعلق الأمر بحليفهم المدلل إسرائيل، التى عجزت بمفردها عن مواجهة المقاومة وفقدت القدرة على الاستقلال الاستراتيجى الذى كانت تفخر به قبل 7 أكتوبر، كما أن حليفها الأمريكى انتقل من ضمان تفوقها على المحيط العربى إلى ضمان انتصارها حتى لو كان الثمن العصف بكل القيم التى تصدرت خطاب الموجه للعالم، بل وانتقلت الولايات المتحدة إلى التطابق مع الأهداف الإسرائيلية فى تغيير الشرق الأوسط.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية