تسجيل الخروج

هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟

ظاهرة التنمر

كرَّم الله سبحانه وتعالى الإنسان فخلقه فى أحسن تقويم، ثم سخَّر له ما فى السموات وما فى الأرض، وأنزل رسله وكتبه تباعًا لينظم شئونه، ويحفظ له حقوقه، ويحقق له السعادة فى دار الدنيا، ثم الدار الآخرة.

ولذلك نجد أن مقاصد الشرائع -وعلى رأسها شريعة الإسلام- سعت دومًا لحفظ حقوق ذلك الإنسان المكرَّم، فمنعت الشريعة كل ما ينال من أحد تلك الحقوق، وأما كل ما يحقق مصلحة ذلك الإنسان ويحفظ عليه حقوقه وكرامته فإنها تنادى به وتدعو لتحقيقه.

وإننا ونحن نرى الانتشار الكبير لظاهرة التنمر اليوم ندرك بلا تردد أن تلك الظاهرة على اختلاف أنواعها تتعارض بشكل قاطع مع مقاصد الشريعة، التى أعلت من القيم الإنسانية، وأتت لحفظ حقوق الإنسان كاملة، فالضرر اللاحق من التنمر سواء كان ضررًا بدنيًّا أو نفسيًّا لا يمكن أن يُوصف فى شريعتنا إلا بالتحريم القاطع، وقد جعله الله سبحانه وتعالى من أشد ما يمكن للإنسان أن يقترفه من إثم، فقال سبحانه: «..وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا»، وقال صلى الله عليه وسلم فى آخر ما خاطب به أمته يوصيهم بوصايا جامعة: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا».

إنَّ التنمر يتضمن جملةً من المحرمات التى تنطوى على أصناف من الإيذاء، كلها حذَّر منها ونهى عنها الشرع:

أولها: الاحتقار، فالمتنمر يحتقر مَن يتنمر عليه، وقد ورد النهى صريحًا عن الاحتقار فى قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».

فجعل صلى الله عليه وسلم الاحتقار من أشد ما يمكن للمرء أن يقترفه من الإثم، وأنه لا أشرَّ من ذلك الفعل.

وثانيها: السخرية، وقد قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ»، والإنسان السويُّ لا يسخر من أحد مهما كان به من نقص، لأن ما يوجد به إنما هو ابتلاء من الله تعالى، ولعله أخلص ضميرًا وأنقى قلبًا ممن يسخر منه، والمتنمر بالسخرية من الآخرين، يظلم نفسه قبل أن يظلم من يسخر منه، لأنه بسخريته تلك ينال من إنسانٍ قد عظَّم الله حرمته وحفظ كرامته، فاستحق بذلك الذم والعقاب من الله تعالى.

وثالثها: الهمز واللمز: بمعنى العيب والطعن، والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن أن يعيب بعضنا بعضًا، وأن يطعن بعضنا بعضًا؛ فقال سبحانه: «وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ»، وقال: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ».

رابعها: بذاءة اللسان: فالمتنمر فى كثير من الأحيان يستعمل عبارات سباب وإهانة، وتلك الأمور موجبة للفسق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ»؛ فالمسلم لا يكون سبَّابًا ولا لعَّانًا، ويجب على المسلم أن يقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم فى عفة اللسان ونظافته، وإلا فإنه بكثرة تنمره وفحشه فى القول سيكون أكثر الخاسرين يوم القيامة، وقد بيَّن النبى صلى الله عليه وسلم حال هذا الإنسان فى الآخرة ومدى خسرانه، بقوله: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِى مَنْ يَأْتِى يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ».

هذا بالإضافة إلى ما يمكن أن يصل إليه التنمر من الإيذاء والاعتداء البدنى الذى تمنع منه شريعة الإسلام وكافة الشرائع. وهذه الظاهرة المقيتة التى تدعو إلى نبذها الشريعةُ الغراءُ والفِطَر السليمة، يمكن أن تقع داخل محيط الأسرة أو فى المدرسة أو فى أماكن العمل، ولذا فهى تحتاج إلى تضافر كل الجهود على الصعيد المجتمعى والدولى لما لها من تأثير سلبى بالغ على الأفراد والمجتمعات.

إن التنمر يُفضى إلى مآسٍ إنسانية قد تصل إلى حد الموت أو الانتحار نتيجة الضغط النفسى الشديد الذى يتعرض له الشخص المتنمَّر عليه، وهذا ما وقع بالفعل فى الآونة الأخيرة فقد شهد المجتمع العديد من حوادث الانتحار نتيجةً لهذا السلوك العدوانى البغيض، وهو ما حدا بالمشرِّعين فى مصر إلى إضافة مادة جديدة لقانون العقوبات فى سنة 2020م تنص على تعريف التنمر وتتضمن عقوبة المتنمِّر بالحبس والغرامة.

ولخطورة هذه الظاهرة، فقد قامت دار الإفتاء المصرية بدورها فى مواجهتها والتصدى لها فأصدرت العديد من الفتاوى المهمة المفصَّلة التى تتضمن تحريم السخرية من الآخرين والاعتداء عليهم باللفظ أو بالفعل، كما أصدرت فتوى خاصة بظاهرة التنمر وتعريفها، وأوردت الأدلة الشرعية على تحريمها وذكرت تجريم القانون لها، وأشارت إلى خطورة هذه الظاهرة على الأمن المجتمعي.

هل تريد تفعيل الإشعارات ؟

حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية