تسجيل الخروج
هل تريد حقاً تسجيل الخروج؟
ظاهرة الإلحاد
دائمًا ما كانت قضية الإلحاد من أكثر الظواهر تركيبًا وتعقيدًا، وتستمد تلك الظاهرة ذلك التركيب والتعقيد الشديد من تعدد أسبابها وتنوعها وغموضها فى أحيان كثيرة؛ فالإلحاد ليس له سبب واحد، ولا يمكن حصره فى سياق أو بيئة يمكن أن تكون حاضنة وحيدة له أو محفزة على انتشاره.
ومع تتبع حالات الإلحاد لمحاولة فهم تلك الظاهرة وإدراك أبعادها، لا سيما فى البلدان العربية والإسلامية؛ يمكن لنا تصنيف تلك الحالات فى سياق ثلاثة أصناف؛ الصنف الأول منها مَن لديه مجموعة من المشكلات، ولكنها ليست مشكلات ضخمة، بل مجرد تساؤلات تبدو بالنسبة له تساؤلات عميقة صعبة الحل والفهم، ولكن بمجرد أن يدور نقاش حول تلك التساؤلات تتجلى الصورة أمام ذلك الشخص، وتتضح أمامه مدى بساطة تلك الأسئلة وأنها ليست بذلك التعقيد الذى كان يظن أنها عليه قبل أن يبادر بإظهار وطرح تلك الأسئلة؛ ولذلك نجد أن ذلك الصنف من أصناف الأشخاص الذين يتجهون نحو الإلحاد هو أكثر الأشخاص تراجعًا عن أفكاره، وغالبًا ما يترك ذلك الفكر دون الرجوع إليه مرة أخرى.
أما الصنف الثانى من أصناف من يَتَبَنَّوْنَ الفكر الإلحادى فهو مَن يمر بمشكلة نفسية، أو بمعنى آخر يعانى من بعض المشكلات والاضطرابات التى أدت به فى النهاية إلى الإلحاد، ووفق بعض الدراسات التى تتبعت مجموعة من الملحدين فى الولايات المتحدة الأمريكية فقد خلصت تلك الدراسات إلى أن أكثر من نصف هؤلاء فقدوا أحد والديهم فى سن مبكرة فى طفولتهم، أو مَرُّوا بمراحل من الاختلال الأسرى وعدم التماسك، أو أن ظروف تنشئتهم كانت ظروفًا صعبة، وهو ما دفعهم بعد ذلك إلى تبنى نوع من الرفض والغضب، الذى يُترجَم فيما بعد إلى الإلحاد. وهذا الصنف من أصناف الملحدين بخلاف الصنف الأول لا يحتاج إلى مناقشات أو إزالة مواطن اللبس ومعوقات التفكير الصحيح عندهم، بل يحتاج فى المقام الأول إلى علاج نفسي، وهو ما يُنْصَح به، ويحتاج إليه ذلك الشخص، وغالبًا ما يتراجع هذا الشخص عن فكره الإلحادى مع علاجه النفسي.
أما الصنف الأخير من أصناف أصحاب الفكر الإلحادي، فهم الصنف الذى توجه للفكر الإلحادى بعد قراءات مختلفة ومتنوعة، وهو ما جعل منه فى الجملة صاحب فكر -بقطع النظر عن انحراف ذلك الفكر وبطلانه -وهذا النوع هو أكثر الأنواع احتياجًا للمناقشات الهادئة، المستمرة لفترات طويلة قد تصل فى بعض الأحيان لعدة أشهر.
والإلحاد فى النهاية ظاهرة سلبية، وإن كانت قديمة إلا أن التسارع الكبير فى التحول العلمانى الغربى بعد الثورة الفرنسية وتراجع الحيز الدينى زاد من انتشارها، فانتقلت رويدًا رويدًا لتتغلغل فى مجتمعاتنا الإسلامية والعربية على الرغم من الاختلاف فى التكوين الثقافى بين مجتمعاتنا والمجتمع الغربي، واختلاف قيمة الدين ومدى أهميته فى التكوين الاجتماعى والفكرى بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم، إلا أن الظاهرة وجدت طريقها داخل مجتمعاتنا بشكل أو بآخر.
إننا ونحن نرصد ظاهرة الإلحاد ونحاول فهمها فهمًا يساعد على وضع حلول مؤثرة فى تقويضها ومنع انتشارها، يجب أن ندرك أن أحد الأسباب التى قد تُحدث تشوهات فكرية تؤدى بصاحبها إلى الإلحاد هو الخطاب الدينى غير المنضبط، فالسيولة فى الخطاب الدينى من غير المتخصصين من جهة، ومن الخطاب الدينى الموجَّه الذى يحاول حشد الجماهير وراء قضايا سياسية أو خدمة أيديولوجيات متطرفة ساهمت كثيرًا فى انتشار ظاهرة الإلحاد، وزادت من تساؤلات الملحدين حول ماهية الإسلام والدين عمومًا.
وكان للفتاوى الشاذة دور أيضًا فى ذلك بوصفها مكوِّنًا مهماً من مكونات الخطاب الديني، ولذلك كان الاهتمام بالفتوى وضبطها له تأثيره الإيجابى على تقويض ظاهرة الإلحاد وانتشارها.
إن الفتوى تعكس مدى شمولية الشريعة وقدرتها على احتواء كل مظاهر الحياة، وتعطى تصورًا عن ماهية الشريعة ومبادئها ومنطلقاتها، وهو ما نحتاج إلى تجليته وبيانه لمواجهة ظاهرة الإلحاد التى غالبًا ما تستند إلى صورة غير مكتملة أو مشوهة عن الشريعة والإله.
كما أن المؤسسات الإفتائية يمكن أن يكون لها دور بجانب الفتوى فى مواجهة ظاهرة الإلحاد، اقتداء بما قدمته دار الإفتاء المصرية فى هذا الصدد، فقد جمعت دار الإفتاء كل ما يمكن جمعه ورصده حول ظاهرة الإلحاد، ومن ثم رأت أن أسئلة الإلحاد ذات طبيعة خاصة تحتاج إلى حوار علمى خاص وراقٍ، وأن الأجوبة قد لا تكون فى كثير من الأحيان مسعفة، فلذلك وضعت الدار إستراتيجية أكثر فاعلية فى مواجهة ظاهرة الإلحاد، فقامت بتدريب مجموعة من أمناء الفتوى داخليًّا وخارجيًّا على كيفية مواجهة قضايا الإلحاد، وتعمل تلك الوحدة المدربة فى سرية تامة من حيث نوعية الأسئلة المطروحة، وصاحب السؤال، وتعمل بانعزال عن مسار كل الأسئلة الشفوية. والنقاش قد يستمر لساعة ولثلاث ساعات، وذلك فى صبر تام من الباحث الذى يتعرض لقضايا الإلحاد مع مَن لديه مشكلة فى الفهم، حيث تتم مناقشته لعدة ساعات من المتخصصين، وقد تستمر المناقشة على مدى عدة مرات.
إن آليات مواجهة الإلحاد تتضمن عدة محاور يأتى فى مقدمتها الخطاب الدينى المعتدل الذى يرسخ للمنهج الوسطي، إضافة إلى المواجهة الفكرية الهادئة وتهميش القضايا غير المجدية خاصة التى تبث عبر مواقع الإنترنت وشبكات التواصل، مع الاهتمام بالتربية الدينية الصحيحة فى مجتمعاتنا. فإذا استطعنا العمل على تلك المحاور يمكن لنا أن نرى تراجعًا ملحوظًا فى انتشار تلك الظاهرة فى مجتمعنا الإسلامى والعربي.
هل تريد تفعيل الإشعارات ؟
حتي لا يفوتك أخر الأخبار المصرية والعالمية